الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

مشاهدات


د. نزار السامرائي 

الاتفاقيات في العهد العراقي
ظروف البلدين الدافعة لتوقيع معاهدة 1937م ومع كثرة المعاهدات والبروتوكولات الموقعة بين بلاد فارس والدولة العثمانية نيابة عن العراق عندما كان جزءً منها، فإن الخلافات على الحدود ظلت قائمة، وقد أصدرت الحكومة العراقية عام 1960م كتابا باسم (حقائق عن الحدود العراقية الإيرانية) أوردت فيه نصوصا لمعاهدة أرضروم وبروتوكول عام 1913م وتثبيت الحدود عام 1914م وشرحت الحكومة العراقية فيه التجاوزات الإيرانية لحدود العراق .  وقد ورد في كتاب الحكومة العراقية ما يليٌ :

(إن الحكومة الإيرانية ظلت تخالف نصوص الاتفاقات الواضحة وتهدف بذلك إلى تحقيق بعض المكاسب على حساب العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد تجاوزت على حدود العراق منتهكة نصوص الاتفاقات المذكورة التي كانت طرفا فيها، ولا تزال تجاوزاتها مستمرة حتى الآن، بل أن تجاوزاتها اتخذت شكلا استفزازيا منذ قيام الثورة العراقية ، أرادت الحكومة الإيرانية اغتصاب ما يتيسر لها اغتصابه من الأراضي العراقية فأنشأت في داخل لعراق مخافر حدودية وحرستها بقوات مسلحة وهذه المخافر هي :

1- البجلية، ويقع في قضاء (قلعة صالح)، وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية على مسافة كيلومتر واحد عن خط الحدود.

2- كاني سخت، ويقع في قضاء (بدرة)، وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية بعيدا عن خط الحدود بمسافة ستة كيلومترات .

3- الزيادي ويقع في قضاء (بدرة) وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية على مسافة خمسة كيلو مترات عن خط الحدود .

4-  تك تك ويقع في قضاء بدرة وقد أنشئ داخل الأرض العراقية على مسافة سبعة كيلومترات من خط الحدود.

5- قلعة لان (قلا لان) ويقع في قضاء مندلي وقد أنشئ داخل الأرض العراقية على مسافة كيلومتر واحد من خط الحدود.

6- ني خضر ويقع في قضاء مندلي وقد أنشئ داخل الأرض العراقية أيضا .


إن الحكومة العراقية آثرت اتباع الأساليب الدبلوماسية للدفاع عن حقوقها ولكن لم تُجدْها احتجاجاتها الكثيرة ومطالباتها المتوالية إذ كانت الحكومة الإيرانية تحتج بتملكها تلك الأراضي متجاهلة الوثائق الدولية وعلى الأخص محاضر جلسات قومسيون الحدود والخرائط وأوصاف دعامات الحدود وإحداثيات مواقعها الملحقة بتلك المحاضر) . (ولا بد أن نسجل للحكومة الإيرانية هنا أنها تراجعت فترة عن سياسة العدوان مع جارها العراق ، على أثر تنازل جلالة الشاه السابق عن العرش، ومغادرته البلاد ودخول قوات الحلفاء إيران عام 1945م أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد فاءت الحكومة الإيرانية عندئذ إلى الحق، وسحبت قواتها من أكثر تلك المخافر المبنية داخل الأراض العراقية، إلا أنها عادت مع الأسف بعد الحرب إلى سياستها السابقة، فأرادت احتلال المخافر المذكورة مجددا، ولما لم تسمح لها السلطات العراقية بذلك، لم تتردد في استعمال القوة المسلحة لاحتلالها عنوة ولكن الشرطة العراقية ردتها، ومع هذا فلا تزال قوة إيرانية تحتل مخفر ني خضر، وبالرغم من عجز قوات إيران عن احتلال المخافر الأخرى الواقعة داخل الأراضي العراقية، فإن إصرارها على سياستها تلك جعلها تنشئ مجددا مخفرين إيرانيين داخل الأراضي العراقية قبالة المخفرين العراقيين،(كاني سخت) و(الزيادي وسمتهما باسميهما). 

(إن الحكومة العراقية لم تترك فرصة قبل الحرب الأخيرة - العالمية الثانية- وبعدها، إلا وطالبت الحكومة الإيرانية بتحكيم خبراء أجانب لحل خلافات الحدود، ولكن الحكومة الإيرانية التي يظهر أنها تريد التوسع والاستيلاء على ما ليس من حقها، لم تكن راغبة في حل هذه الخلافات بصورة عادلة، ولهذا كانت تماطل في ذلك دائما، وتتمنع بحجة أن العراق وإيران قطران إسلاميان لا يجوز إدخال الأجانب بينهما، وبناء على هذا كانت الحكومة العراقية تقترح تأليف لجنة مشتركة من الجانبين فقط، فكانت إيران تمتنع أيضا متذرعة بحجج مختلفة، وقد وافقت ذات مرة على تأليف لجنة مشتركة من الجانبين للكشف على مخفر البجلية، ولكن الجانب الإيراني أبرز خرائط غير معترف بها وليست لها أية صفة رسمية، ممتنعا عن تطبيق الخارطة الأممية المتفق عليها مبدئيا لتعيين موقع المخفر بالضبط، وبذلك فشلت اللجنة بطبيعة الحال، فعاد الخلاف والجدل حول هذا الموقع إلى سابق عهده). وبهذا يمكننا أن نؤشر على كتاب الحكومة العراقية أنه ينطلق من موقف ضعف معيب، هو وغيره من المواقف المماثلة ، وهذا ما أغرى إيران على مواصلة سياستها في قضم الأرض العراقية ، فالحكومة الإيرانية وهي التي مضت في طريق  اختيار التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي عنوانا لدولتها، وتحالف مع الغرب وإسرائيل، إلى مديات لم تعد سرا في عهد الشاه، حينما كانت تريد التهرب من تنفيذ التزاماتها فإنها تتذرع بشعارات إسلامية ، للتهرب مما كانت قد وقعت عليه في معاهدات موثقة، وحينما لا تجد مهربا من الحضور في اجتماع ثنائي، فإن الوفد يجلب معه خرائط مزورة لا صلة لها بالمنطقة ، على الرغم من أن الإسلام يأمر بالوفاء بالعهود وصدق الالتزام بها، إن هذا الضعف هو الذي أورث الحكومات التي حكمت العراق فيما بعد أكبر رصيد متراكم من المشكلات المؤجلة، فإذا كانت الحكومات الإيرانية وخلال الحكم الملكي، تسطو على جزء من أرض العراق كما يشير كتاب الحكومة العراقية عام 1960، فكيف سيكون سلوكه مع نظم حكم يعتبرها معادية له كما حصل مع حكم البعث؟

كيف سارت العلاقات بين العراق بعد استقلاله عن الدولة العثمانية مع بلاد فارس؟

بعد استقلال العراق وتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، ورث العراق عن الدولة العثمانية مشاكل الحدود المزمنة مع إيران، والتزم العراق بكافة المعاهدات التي ورثها عن الدولة العثمانية والتي عقدتها مع الدولة الفارسية، وذلك حسب اتفاقية لوزان عام 1923م، وعلى الرغم من أن بعض المعاهدات كانت مجحفة بحق العراق، لكن بسبب ضعفه آنذاك واستقلاله الجديد فأنه قبل بها مكرها، ولم يتمكن من معارضتها أو الاعتراض عليها، ولكن الأطماع الفارسية لم تتوقف بعد ذلك، على الرغم من الامتيازات المغالى بها التي حصلت عليها الحكومة الفارسية بدون وجه حق، (ففي عام 1935م تجلى الغدر الفارسي في أبشع صوره، عندما ألغت الحكومة الفارسية اتفاقية أرضروم الثانية عام 1847م ومعاهدات - بروتوكولات - عام 1911م وعام 1913م وعام 1914م ، وأضطر العراق إلى رفع شكوى إلى عصبة الأم المتحدة، التي أوصت بدورها بحل الخلاف بشكل سلمي عبر التفاوض بين الطرفين، ولكن البلدين ونتيجة استئنافهما المفاوضات المباشرة طلبا سحب الشكوى من عصبة الأمم، وجاء ذلك برسالة الحكومة العراقية في 27 نيسان 1936م، وبعثت الحكومة الإيرانية برسالة مماثلة للعصبة في 4 أيار 1936م، ولم تستمر المفاوضات بينهما طويلا بسبب وقوع انقلاب بكر صدقي الذي حصل ليلة الثامن والعشرين من تشرين الأول 1936م، الذي أطاح بحكومة ياسين الهاشمي الثانية ، وكلف الملك غازي حكمت سليمان بتشكيل الوزارة الجديدة التي اتصفت بنزعة دكتاتورية، ولكنها لم تكن متجانسة ولهذا فرطت في الحفاظ على حقوق العراق ومصالحه وسيادته على بعض المناطق، وكان من بين نتائج انقلاب صدقي أن انقطعت المفاوضات مع إيران، وأدى ذلك إلى توقيع إتفاقية عام 1937م والتي تم توقيعها في طهران في تموز من العام المذكور)، بعد مفاوضات استمرت سنتين توصل العراق وإيران إلى تفاهم حول مشكلة الحدود، التي يبدو أنها لا تريد أن تشهد نهاية مؤكدة، وقد اعترفت الحكومة الإيرانية فيها بشرعية بروتوكول الاستانة لسنة 1913م، في حين تنازلت الحكومة العراقية فيها عن جزء صغير من ضفة شط العرب الشرقية أمام عبادان، بحيث أصبح خط الحدود يمر لمسافة سبعة كيلومترات و250 مترا، لتضاف هذه المسافة إلى ما حصلت عليه إيران سابقا أمام المحمرة لتصبح المسافة كلها نحو 14 كيلومترا، ونصت المعاهدة على تشكيل لجنة مشتركة من الطرفين لتتولى نصب الدعامات الحدودية، وكانت إيران تلجأ إلى أسلوب إقامة المخافر الحدودية والدعامات داخل الأراضي العراقية كجزء من الضغط الذي تريد تسليطه على الحكومة العراقية لتقديم تنازلات في الحدود المائية في شط العرب. جرى البحث في وضع بنود معاهدة عام 1937م، عندما زار وفد إيراني بغداد في 28 تشرين الثاني/نوفمبر1936م، ولكن الطرفين لم يتوصلا إلى نتيجة فورية بشأن توقيع المعاهدة . ولكن ضغوطا إيرانية تزامنت بعد شهر من انقلاب بكر صدقي الذي حصل يوم الجمعة 27 تشرين الأول 1936، أي قبل شهر من وصول الوفد الإيراني، مما يؤكد أن إيران تُجيد اقتناص فرص الضعف التي يمر بها أي بلد تريد انتزاع تنازلات منه، ونتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، وافقت الحكومة العراقية على منح إيران مرسى مقابل مدينة عبادان يبلغ طوله سبعة كيلومترات، متّبعا خط الثالوك في شط العرب، مقابل موافقة إيران على الاعتراف ببروتوكول القسطنطينية لعام 1913م، وبمحاضر جلسات لجنة تحديد الحدود لعام 1914م، وقد اعتبرت تلك المفاوضات أساسا لتسوية مشاكل الحدود بين البلدين، وتم التوقيع بالأحرف الأولى على مسودة المعاهدة الجديدة في بغداد في 29/7/1936م ، وقد أصدرت الحكومة العراقية بيانا رسميا أعلنت فيه عن ذلك، وتتضمن المعاهدة عدة اتفاقيات أخرى تم توقيعها من جانب حكومة حكمت سليمان، وهذه الاتفاقيات، بالإضافة إلى معاهدة 4 تموز 1937م : -

- معاهدة صداقة بين مملكة العراق وامبراطورية إيران في 18 تموز 1937م .

- معاهدة لحل الخلافات بالطرق السلمية بتاريخ 24تموز1937م.  

وفي 28/6/1937م أرسلت الحكومة العراقية وفدا إلى طهران برئاسة وزير الخارجية الدكتور ناجي الأصيل، من أجل التوقيع على معاهدة الحدود بين البلدين في حفل أعد لهذا الغرض في طهران بتاريخ 4 تموز 1937م، وأرسلت الحكومة العراقية مذكرة لعصبة الأمم بتاريخ 27/8/1937م، تطالبها بها بسحب شكوى العراق على إيران من جدول أعمال المجلس، لأن المشكلة تمت تسويتها عبر التفاوض، وبعد توقيع المعاهدة التي استسلم فيها المفاوض العراقي للمفاوض الإيراني، قتل بكر صدقي في 8/8/1937م، وفي 17 من الشهر نفسه استقال حكمت سليمان، وخلفه جميل المدفعي . 

بعد سقوط حكومة حكمت سليمان، كواحدة من افرازات اغتيال بكر صدقي في مطار الموصل أثناء توجهه إلى تركيا، تبرأ الساسة العراقيون من المعاهدة نتيجة للتنازلات الكبيرة التي قدمها الجانب العراقي للجانب الإيراني، فقد انتقد الفريق طه الهاشمي المعاهدة، لأن الجانب الإيراني كان يستخدم شط العرب لملاحته بحرية كاملة بموجب الاتفاقيات السابقة دون أي عرقلة، كما انتقدها السياسي محمد مهدي كبة، واصفا إياها بأنها منحت إيران حقوقا لم تكن لها أبدأ، واندلعت تظاهرات في بغداد والبصرة احتجاجا على مناقشة مجلس النواب للمعاهدة في 6 آذار 1937م لإبرامها، إيران لم تقدم شيئا للعراق مقابل ما قدمه لها، وكل ما قدمته هو اعتراف ببروتوكول كانت قد وافقت عليه في وقت سابق وقبضت ثمنه فورا. ساد العلاقات بين البلدين هدوء قلق، بعد سنوات من التوتر نتيجة إصرار إيران على قضم المزيد من الأراضي العراقية، كلما سنحت لها الفرصة، لكن الهدوء الذي أعقب توقيع المعاهدة، لم يكن نابعا عن التزام إيراني ببنودها، بل نتيجة انشغالها بمشاكل داخلية نجمت عن احتلال القوات البريطانية والقوات السوفيتية، لأجزاء مختلفة من الأراضي الإيرانية عام 1941م، ومرت باضطرابات داخلية وتم ابعاد الشاه رضا خان الكبير عن إيران، ومجيء ابنه محمد رضا بهلوي، والذي واجه صعوبات في السنوات الأولى من حكمه، انتهت بسقوط حكومة الدكتور مصدق بانقلاب 1953م، على أيدي رجال المخابرات المركزية الأمريكية، وجاء بعد ذلك دخول العراق وإيران في حلف بغداد عام 1955م، غير أن شهر العسل لم يدم طويلا، ففي 14 تموز عام 1958م حصل تغيير في نظام الحكم في العراق، وأدى ذلك من بين نتائجه إلى خروج العراق من حلف بغداد، الذي سيتحول اسمه فيما بعد إلى حلف المعاهدة المركزية.وكان أول رد فعل إيراني واضحا على لسان الشاه، إذ أعلن في مؤتمر صحفي عقده في طهران في 28 تشرين الثاني 1958م، وصف خلاله بنود معاهدة 1937م، بأنها (غير محتملة ولا سابقة لها في التاريخ) وأعلن رغبته في الغائها ، وهذا الموقف يعكس بجلاء، أن إيران تعي جيدا أنها لا تمتلك حقا في ما تطالب به وتأخذه من العراق، وأنها تربط هذه الخطوات بالظرف السياسي السائد في كلا البلدين، ونوعية العلاقة التي تربطهما، فإذا كانت العلاقات عادية أو كان العراق قويا، جمدت مطالباتها حتى تثير أزمة جديدة، وتوظفها من خلال الاستقواء بقوى دولية، أو استضعاف العراق أو في الحالين معا، وكانت أول خطوة ذهبت إليها الحكومة الإيرانية في أيار 1959م، هي إعلانها ميناء خسرو آباد ميناء بحريا ملحقا بميناء عبادان، من أجل شمول واجهته بامتيازات أرصفة عبادان والمحمرة ، واستغلت إيران ظروف الفوضى التي ضربت العراق من أقصاه إلى أقصاه، وعُزلته الدولية بعد انفراد الزعيم عبد الكريم قاسم بالحكم ، وتخلصه من معظم شركائه في ثورة 14 تموز عام 1958م، وكذلك نتيجة لتنامي نفوذ الحزب الشيوعي العراقي وسيطرته على أجهزة الدولة، وإطلاق ميليشيا المقاومة الشعبية التابعة للحزب الشيوعي، ومنظمة الشبيبة الديمقراطية في الشارع العراقي، وبروز توقعات دولية عن احتمال سقوط العراق في أحضان الشيوعية الدولية، ووقوف الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا مع إيران لعزل العراق واضعافه.

رفض العراق الخطوة الإيرانية بتاريخ 9 حزيران 1959م، مستندا إلى أن خسرو آباد لا تصلح أصلا لتصبح ميناء بحريا، وأكد على أن إيران لا تمتلك الحق القانوني لمثل الخطوة، وأن ما قامت به ببناء رصيف خسرو آباد، إلا من أجل توسيع نطاق الوضع القانوني الخاص للمنطقة المقابلة لميناء المحمرة وشمولها بخط التالوك، لأن جميع مياه شط العرب خاضعة للسيادة العراقية، وذلك استنادا إلى معاهدات دولية ملزمة للبلدين، باستثناء مسافة محدودة مقابل عبادان والمحمرة . وبرفض العراق للخطة الإيرانية، دخلت العلاقات بينهما نفقا مظلما لم يكن ممكنا اجتيازه بسرعة وسهولة، على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي كان يساند العراق سياسيا، إلا أن مواقف الاتحاد السوفيتي كانت قاصرة على الدوام عن نصرة صديق أو حليف أو منع باطل، وبدأت الاستفزازات والاعتداءات الإيرانية على حق العراق في السيادة على شط العرب، وتوترت أجواء العلاقات بين البلدين وكادت تصل مرحلة الصدام المسلح، ولكن الاتصالات السياسية والدبلوماسية التي نشطت في تلك الفترة نزعت فتيل الأزمة وإن كانت قد عجزت عن حلها نهائيا . اعتمدت إيران سياسة التوسع على حساب الأراضي العراقية، وكان هدفها الحقيقي هو الحصول على نصف شط العرب، وحتى هذا الهدف لم يكن أكثر من خطوة على طريق طويل من الطموح غير المشروع، والذي لا يستند على أي أساس قانوني، يقول الدكتور هاري موهان جين وهو أستاذ بقسم العلوم السياسية في جامعة الله آباد الهندية (فبينما نجد إيران تدعي بحقها في الحصول على نصف شط العرب، مستندة في ذلك إلى نظرية الثالوج (Thalweg) المعترف بها في القانون الدولي الحديث، لتحديد الحدود بين دولتين متشاطئتين، نجدها تعجز عن اثبات حقها التاريخي في ذلك، على العكس من الحكومة العراقية التي تستند في الدفاع عن وجهة نظرها إلى حقوق تاريخية، ضمنتها المعاهدات التي عقدت بين السلطان العثماني وبين الفرس، وكذلك إلى اعتبارها نفسها وريثة الإمبراطورية العثمانية في المنطقة في هذا المجال، حيث تلتزم بالمعاهدات التي كانت قائمة بين الطرفين العثماني والفارسي آنذاك) ، وتعد هذه الشهادة واحدة من الوثائق التي تزخر بها المكتبة وتمتلكها وزارة الخارجية العراقية في أرشيفها السياسي . 

إن مما لا يمكن المجادلة فيه، على الرغم من كل ادعاءات الحكومة الإيرانية ومذكراتها الرسمية، فإن السيادة العراقية تمتد إلى جميع شط العرب، فيما عدا منطقتين صغيرتين تمتدان مع خط التالوك من مدينة المحمرة ومينائها أي المرسى المقابل لقناة الحفار، وجزيرة خضر (عبادان) والمرسى، ويبلغ طول الشريط الساحلي الشرقي لشط العرب الذي منح لإيران 7250 مترا تسير الحدود فيها مع خط التالوك في ظروف خاصة، بعد تخلي الدولة العثمانية عن المنطقتين بموجب معاهدة أرضروم الثانية لعام 1847م للدولة الفارسية، نتيجة تدخل بريطانيا وروسيا القيصرية للتوسط بين الدولتين العثمانية والفارسية، وتم تثبيت ذلك في بروتوكول القسطنطينية الذي وقع بين الدولتين العثمانية والفارسية في 4/11/1913م . (لقد كان استناد إيران إلى- نظرية الظروف الطارئة- المعروفة في القانون الدولي، وقيامها بإلغاء معاهدة الحدود العراقية الإيرانية لعام 1937م بصورة انفرادية، خطوة تتعارض ومبادئ القانون الدولي، علاوة على خرقها نصوص ميثاق الأمم المتحدة). ولعبت شركات النفط العاملة في العراق أدوارا خطيرة في التحريض على أمن البلاد ووحدة أراضيها، قال اللواء الركن عبد الكريم قاسم، في مؤتمر صحفي عقده في 23 أيلول/ سبتمبر1961م، إن الشركات النفطية تحرض الإقطاعيين الأكراد على التمرد على الحكومة، ليمارسوا ضغطا عليها في مجالين، الأول موضوع المفاوضات النفطية التي كانت جارية آنذاك بين الجانبين، والثاني هو مطالبته بالكويت، والانزال البريطاني فيها ردا على موقف العراق، وحمايةً للكويت من تدخل عسكري عراقي مفترض، وهذه التطورات تأتي بعد سنتين من الأزمة مع إيران بشأن ميناء خسرو آباد، والذي أرادت إيران من بنائه، مد المنطقة الممنوحة لها على الضفة الشرقية لشط العرب لمسافة أطول، ولعبت كل بريطانيا والولايات المتحدة دورا مهما في محاولة إضعاف العراق أمام إيران بكل ما تمتلكان من وسائل وأدوات لأن إيران كانت حليفا ثابتا للغرب . 

بات العراق بعد 14 تموز 1958م بلدا يعاني من اضطرابات سياسية، يمكن أن تقوده إلى التحالف مع الكتلة الشيوعية، يقول اللواء عبد الكريم قاسم في مؤتمره الصحفي السابق (لقد صرفت السفارة البريطانية ما يقارب نصف مليون دينار على هذه الأعمال العدوانية الخبيثة التي شملت الرجعية وقطاع الطرق والسراق والانتهازيين وعملاء الاستعمار). أما الحزب الشيوعي العراقي الذي كان ما يزال حتى ذلك الوقت، حليفا قويا لحكم عبد الكريم قاسم، فقد أصدر بيانا بتاريخ 22 آب / أغسطس 1961م حول ما أسماه بالوضع الراهن في كردستان، أشار فيه إلى دور أمريكا بالإضافة لما قام السفير البريطاني في بغداد همفري ترفليان، والذي قام بجولة في جبال العراق اجتمع خلالها بالشيوخ الأكراد، وقال بيان الحزب الشيوعي (في الفترة بين 20 و 23 تموز 1961م اجتمع السفير الأمريكي هولمز وبمساعدة الملحقين العسكريين الأمريكان وقنصل أمريكا في مدينة رضائية الإيرانية، بعد أن نظموا سفرات في المناطق الكردية من إيران واتصلوا ببعض الشيوخ والأغوات، وفي نفس الوقت قام رئيس الاستخبارات الإيرانية ببعض السفرات المريبة في المناطق الكردية في إيران، وكانت باكورة النشاط التآمري على الجمهورية العراقية، ارسال علي حسين أغا المنكوري على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، بإشراف مبعوثين أمريكيين والسلطات الإيرانية ) ، هذا كله يؤكد أن إيران كانت على الدوام توظف مشاكل العراق الداخلية وتحرك ملفاتها بكل ما يتيسر لها من امكانات من أجل اضعاف موقف العراق في الحوارات والمباحثات أو المفاوضات الثنائية، وخاصة فيما يتصل بقضايا الحدود بين البلدين، ويتم ذلك عبر تنسيق محكم بين شركات النفط العاملة في العراق، والدول المالكة لأسهمها وخاصة بعد صدور القانون رقم 80 لسنة1961م، والخاص باستعادة أكثر من 99% من الأراضي العراقية التي كانت ضمن عقود الاستثمار الممنوحة لتلك الشركات والتي لم تباشر العمل بها.

تعليقات

أحدث أقدم