مشاهدات
صباح الزهيري
يقول الجاحظ : (( الكتاب نعم الذّخرُ والعُقدة , ونعم الجليس والعُدَّة , ونعم النشرة والنزهة , ونعم المشتغل والحرفة , ونعم الأنيس لساعة الوحدة , ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة , ونعم القرين والدخِيل , ونعم الوزير والنزيل , والكتابُ هو الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك , وشحَذَ طباعَك , وبسَط لسانَك , وجوَّدَ بَنانك , وفخَّم ألفاظَك , وبجَّح نفسَك , وَعمَّر صدرك , ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ , وصَداقَةَ الملوك , وعَرفتَ به في شهرٍ ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر, مع السلامةِ من الغُرم , ومن كدِّ الطلب , ومن الوقوفِ بباب المكتِسب بالتعليم , ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاً , وأكرمُ منه عِرْقاً , ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء , غبرَ على الناس زمانٌ كان الكتاب ملءَ سمعهم و بصرهم , يُمتّعهم في الخلوة , و يُؤنسهم في الوحشة , يجلو أفهامهم , ويذكي قلوبهم , يصاحبهم في الغربة ويسرّي عنهم في الكُربة , فلا غرو أن صرفوا إليه همّهم , واستفرغوا في تحصيله مجهودهم , و أقاموه مُقام الزّوجة والمال والولد , بل مقاماً أجلَّ وأسمى , وأشرف و أنبل )) .
أذا كان هذا الكتاب , فلم الحريق ؟ لعله قول د . رشيد خيون : ((المعرفيات الكبرى كانت مثار قلق الخلافة دائما )) , وهناك من يرى (( أنَّ القوى الظلامية لا تتكيف مع مجتمعات مستنيرة تعطي للمعرفة دورها )) , والعرب يدمرون الكتب ويرتكبون خطيئة إبادة الكتب فى كل الثقافات , ولا يمكن أن ننكر ذلك فقد كانت المؤلفات مصدر إزعاج للبعض خاصة للسلطات , والثقافة العربية كان لها نصيب كبير من التعامل مع الكتب , وعلى مر العصور تعرضت المعرفة الإنسانية لهجمات عديدة استهدفت محوها , وأتت نيران الجهل على العديد من المكتبات والسجلات والمخطوطات منذ الأزمنة القديمة وحتى العصر الراهن . يقول المؤرخ العراقي الدكتور عبد الرحمن الحجي : (( إنه بعد سقوط الأندلس أمرت السلطات الإسبانية الجديدة عبر التهديد والوعيد ومحاكم التفتيش للسكان المسلمين بتسليم ما لديهم من الكتب والمخطوطات , وأن عملية جمع الكتب استمرت 7 سنوات , وبعد ذلك أُحرقت الكتب والمخطوطات التي تم جمعها في غرناطة في منطقة باب الرملة , وقَدر كثير من الدارسين الغربيين ما تمّ إحراقه ذلك اليوم بمليون مخطوطة)) , كما إن بيت المعرفة الذي بناه في عام 991م الفارسي صبور بن أردشير كان يحتوي على أكثر من 10 آلاف مجلد عن مواضيع علمية , لكنه دُمر في منتصف القرن العاشر , ثم جاء غزو تيمورلنك (1239-1400م) , حيث هدم بغداد وأحرق مكتباتها , يقول الباحث العراقي الدكتور عبد الأمير زاهد الأستاذ بجامعة الكوفة : (( إنه بعد غزو المغول لبغداد 1258م- 656هـ حدث الإحراق لأسباب التفاوت الفكري بين جماعات المغول المحتلة وأهل البلاد المحتلة , إذ أن بغداد كانت عاصمة لديها تاريخ طويل في إنتاج العلوم , لذلك أحرق المغول مكتباتها )) , ولا سيما مكتبة بيت الحكمة في بغداد , وهي أكبر مكتبة في العالم , حيث تم رمي أطنان الكتب والمراجع في النهر حتى اصطبغ باللون الأزرق .
لنأخذ مثالا , أبو حيان التوحيدي , المثقف المحاصر المأزوم بنكهة وجودية , والذي يعتبر نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي (المتمرد) في القرن الرابع الهجري , والذي قال عنه ابن خلدون (( إنه إمام المدونين في علم الكيمياء , حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر , وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز)) , وقال عنه أبو بكر الرازي (( إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء )) , فيما قال عنه القفطي (( إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء )) , وقيل فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق وإنه هو أول من علم علم الكيمياء للعالم , والمؤلم أن التوحيدي الذي ألف (الإمتاع والمؤانسة ) , و( المقابسات ) , و(البصائر والذخائر) , أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته , واشتكى من تجاهل إبداعاته ومن الفقر وقلة الرزق , وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه (( فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم)) , أبرزهم سفيان الثوري , الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح , وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باق , وداود الطائي الذي طرح كتبه في البحر وقال يناجيها : (( نعم الدليل كنت , والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول , وبلاء وخمول )) , وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال : (( والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك )) ,وذكر جلال الدين السيوطي في (( طبقات اللغويين والنحاة )) : (( أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لمّا انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه , فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها)) , وروى التوحيدي عن شيخه أبي سعيد السيرافي الذي لقب بـ( سيد العلماء) , أنه قال لولده محمد : (( قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل , فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار)) ,ما يعني أن التوحيدي عاش مهمشا مغتربا كحال مثقفي هذا الزمان الأصلاء. هناك زوجاتٌ أحرقن مكتبات أزواجهن ,هذا سيبويه , أحرقت زوجته كتبه , لأنه كان يشتغل عنها بتأليف أعجوبته ( الكتاب ) , ولما علم بذلك غُشي عليه , فلما أفاق طلّقها , والليث بن المظفر , كان مشتغلًا عن زوجته بحفظ كتاب (العين) للفراهيدي , فغارت زوجه من الكتاب , فأحرقته , والأمير محمود الدولة الآمري , كان يقتني الكثير من الكتب , فلما مات كانت زوجته تندبه وترمي بالكتب في بركة ماء وسط الدار , لأنه كان يشتغل عنها بهذه الكتب , وإبراهيم العياشي , قضى 20 سنة في تأليف كتاب (حجرات النساء) , فأغاظ ذلك زوجه لٱنشغاله عنها كثيرًا , فأحرقت الكتاب , فأُصيب بالشلل , ومحمد بن شهاب الزُّهْري , قالت له زوجُه يومًا : و اللهِ لَهذه الكتب أشدُّ عليّ من ثلاث ضرائر , و يقال بأن ٱبن الجوزيّ أحرق كتبه بإيعاز من أمه .
إرسال تعليق