الظاهرة الترامبية

مشاهدات




د.ضرغام الدباغ

نسمع من الناس ونقرأ، شتى التعليقات والتحليلات، ويحلو للكثير منهم، بل معظمهم، أن يعتبروا الترامبية ظاهرة بحد ذاتها، وهناك كثيرون ممن يعتبرونه مجنونا، أو أهوجاً، تتعزز هذه النظرة باعتبار أن تأريخه الشخصي لا ينطوي على سيرة سياسية، أو وظيفية، أكثر من تاجر ومضارب في العقارات، لا تمنحه الخبرة والرزانة المطلوبة لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية . بيد أن المتابع الجيد للتاريخ السياسي للولايات المتحدة، ومن ميزاته، أنه ليس بتاريخ قديم تتراكم فيه التجربة والحكمة، (اقل من 250 عام) صنعوا منه ألآف الأفلام والمسلسلات (كاوبوي) رغم أنها لا تنطوي على فكرة إنسانية أو سياسية عميقة، فالمتابع الجيد للأحداث السياسية لما قبل عقد واحد أو عقدين، سيلاحظ الكثير من مقدمات ما نشاهد اليوم احداث تجري على مسرح السياسة الدولية . في ثلاث بؤر مرشحة للتفاقم والانفجار . فالمقدمات التي ستقود للحرب الأوكرانية كانت متوفرة وبشدة، بدا فيها عزم وتخطيط الولايات المتحدة واضحة جداً للعيان، منذ مطلع القرن، كذلك التقدم الصيني السياسي الاقتصادي / العسكري، مؤشراته ودلالاته تعود إلى ما قبل أكثر من عقد ونصف من السنوات.

أما الشرق الأوسط، فهذه القنبلة الموقوتة، الجاهزة للاشتعال والانفجار في مناسبة وغير مناسبة، لأنه يضم تناقضات جوهرية لا يراد لها أن تجد الحل العادل، وكان الرؤساء الامريكان يبشرون بسياسة التصعيد في هذه الاتجاهات في حملاتهم الانتخابية، منذ أكثر من 20 عاماً، منذ ما قبل ولاية الرئيس أوباما فصاعداً . يمكن القول بوضوح تام، أن صورة الموقف على مسرح العلاقات الدولية، لم يبلغ هذه الدرجة من التوتر الشديد في بؤر الأزمات (البؤر الثلاث التي تنذر بالتطور لحروب عالمية) ليس بناءا على سوء وتخبط في أداء وخطط الولايات المتحدة فحسب، بل وأيضاً بسبب أن قوى واعدة في العالم تمكنت من إحداث تقدما جوهرياً في قدراته، وبالتالي من إحداث تغير ملحوظ في التوازنات الدولية، سياسيا واقتصاديا وعسكرياً : روسيا، الصين، البرازيل، الهند، ومجموعة دول بريكس، وإن كان من المبكر القرار بأنها ستكون القطب الرئيسي العالمي، ولكنها أحدث تعديلاً في التوازنات الدولية، ونعتقد أن هذا سيتعزز في المستقبل في مزيد من الوضوح . ويستحق الإشارة أن الرئيس ترامب، في محادثته الهاتفية مع الرئيس بوتين، تحدثا بشكل مبدئي عن عناصر جدول اعمال محتمل وكانت أبرز القضايا : أوكرانيا/ الشرق الأوسط/ الدولار، وهذه إشارة واضحة أن الولايات المتحدة قلقة من بروز عملة عالمية تنافس الدولار . ربما أن لكل رئيس شخصيته وأسلوبه في التحرك، وأرجح أن هذه مدروسة بدقة في الدولة العميقة الأمريكية حين انتخابها رئيساً لمؤسسة الدولة (المجمع الرئاسي) . ويتردد لدى المتابعين للشؤون الأمريكية، ولأسماء الشخصيات البارزة في المجمع الرئاسي (البيت الأبيض، المستشارين الأمنيين، وزارة الخارجية، البنتاغون) نلاحظ أن ولاية الرئيس ترامب الأولى كانت تضم شخصيات سياسية تتسم بالكياسة، والرزانة، وكانوا يحاولون غلق الثغرات التي كان الرئيس يفتحها، ولكن رئاسته الحالية / الثانية، تضم شخصيات متطرفة على شاكلته : نائب الرئيس فانس، وإيلون ماسك (صديق الرئيس وداعمه المالي، وشخصيات أخرى)، ثم (بتقدير جهات عديدة) أن مسألة أن الولايات المتحدة الامريكية تواجه مشكلات داخلية تفوق حجم المشكلات الخارجية، التي تطل بدرجة مقلقة، فتزيد الحالة تعقيداً وتوتراً .

بتقديري أن الرئيس ترامب يتصنع العصبية والنرفزة، والغضب، وأرجح أن الاحداث ستنفس تدريجياً هذه الانفعالات، بعد أن يصطدم هو بنفسه، برفض جهات دولية عديدة رفضها لهذا الأسلوب الابتزازي، والتلويح بالقوة ، الذي ينطي على اختراق للأصول الدبلوماسية، ويوم ( 14/ شباط / 2025) حدثت أشبه بالمواجهة بين ممثل ترامب نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس مع وزير الدفاع الالماني، حول مشاركة الاتحاد الأوربي بمقدمات المفاوضات حول انهاء الحرب في أوكرانيا، وان أوربا أبدت امتعاضها بوضوح من استبعادها من المشاورات التي تتضمن فقرة مهمة للغاية : هل هناك مبدأ تتخلى بموجبه أوكرانيا من أراضي في شرق نهر الدنيبر، الرئيس ترامب يردد أن هناك أراض أصبحت في الواقع روسية، فلتأخذها .. ولكن كم هي الأراضي، وما مساحتها، وماذا عما يتبقى من أوكرانيا، هل ستكون دولة حرة لها خياراتها ..؟ وغيرها من الأسئلة المهمة، إدارة ترامب تبلغ الاوربيين ما ترغب إبلاغه لهم والاحتفاظ بمعطيات أخرى .. تتفاهم عليها مع موسكو ، ولا تهتم بالرؤيا الأوربية للنزاع مع روسيا التي دفع فيه الأوربيون الشيء الكثير. كما أكد المستشار الألماني شولتس خلال كلمته في مؤتمر ميونخ للأمن رفض بلاده تدخل اي جهة في شؤونها الداخلية، منتقداً تدخلات نائب الرئيس فانس والملياردير الأميركي إيلون ماسك (من فريق ترامب) لصالح "حزب البديل" اليميني الألماني. كما شدد على أن الديمقراطية يمكن أن تدمر من قبل أحزاب غير ديمقراطية، مشيراً إلى أن معظم الألمان يقفون ضد من يمجد النازيين، ملمحاً إلى "حزب البديل". إلى ذلك، أكد التزامه بعدم تكرار تاريخ النازيين غير ممكن بدعم "حزب البديل من أجل المانيا"، وأن التاريخ علم الألمان عدم التسامح مع الفاشية مرة جديدة . وأردف قائلاً "لن نقبل أن ينظر أشخاص من الخارج إلى شؤوننا الداخلية ويتدخلون لصالح حزب البديل من أجل المانيا... نحن نرفض التدخل في شؤون خاصة لمصلحة حزب مثل البديل من أجل المانيا". بالطبع الأوربيين سيواجهون روسيا في ميادين وساحات عمل عديدة في أورب (سياسية واقتصادية)، والروس يعرفون مداخل ومخارج الملفات الأوربية ويجيدون التعامل بها بمهارة تامة، يقابلهم أتحاد أوربي ليس جميع اعضاؤه بدرجة عزم وتصميم واحدة .. والموقف الاوكراني سيكون مؤثراً على مسار الاحداث في أوربا وفي بؤر التوتر (بهذه الدرجة أو تلك) أخرى (الشرق الأوسط، جنوب شرقي آسيا، ملفات التجارة الدولية) والمرحلة الترامبية ستكون متعبة بنظر الأوربيين، العالم اليوم يدرك بالتفصيل مسارات الازمات وبؤر التوتر، ويدرك أن الحرب والتصعيد هي آخر لغة وأسلوب لحل المشكلات الدولية، وأن لغة الغطرسة والعجرفة هي لغة مستهجنة، وإقامة حملات إبادة دموية هي مدانة في ضمير شعوب العالم، والتعامل بين قيادات وزعامات عالمية يجب أن تنبع من الرغبة في الحوار وحل المشكلات، لا بإطلاق الكلمات غير اللائقة، التي لا تتناسب مع أهمية الحوار والرغبة بحل المشكلات وليس إملائها على الشعوب والبلدان.

تعليقات

أحدث أقدم