مقال - "الجِياف" .!!

مشاهدات


د.سعد الدوري

سنكتُب بعض العبارات سكنت خالدة في بيت الذاكرة منذ أن كُنا في عُمر فتىٰ .. فلا تؤاخذونا عليها .. فهي ليست مِن نَسج الخيال، إنما حَقيقة!

قُراءنا الأعزاء - نحنُ لا نجهل سوياً - مَنْ هو (المقبور الچلبِّي - الچلب) - أصله وفَصله وَتَفاصيله - ذاك الصعلوك الخائن المُطيع "للفرس والروم" - الذي تَمَّ دفنه علىٰ (قُرب) مِن "قبر الإمام" دون أي إعتراض يَصدر من سيادة "الإمام - أبو المعجزات - وَ"بواب الحوايج" ..!! وكيف كان (الچَلب) هو الذي قد هيأ "عدداً" من "الجياف- "القواويد" لأداء "تمثيلية" هَدم (تمثال) شهيد الأضحى !لكن ما بَال البقيّة في المَشهد مِن العراقيين .. لِمَّ - لَم يَنتفِض ولو رجل مِن بَينهُم ؟! وإن إفترضنا جدلاً - أنهُ بسبب الجُبن يمكن تبريرهُ بِرأفةً وعاطفة سلبية - علىٰ أنهُم أصحاب (عوائل) خافُوا فَجُبِنُّوا ؟! لكن علاما - كانوا يَتقافزون (كالقُرود) في مسرح العَرض حول (التمثال) ، ويتزاحمُون تدافعاً - مع سُقوط قِطع التمثال - كفِراخ (ابن الِعرس) - التي تَلتّم علىٰ تفتيت جَسد فَريسّتة .! هٰذا المَشهد المؤلم سرعان ما ذكرنا - بالأستاذ (عبد الستار العزاوي) - كان الرجل يُدرسنا (مادة التاريخ - وادي الرافدين) - الثاني متوسطة - في (ثانوية السويس) ، في بدء عقد السبعينات الماضية ..! ان (الأستاذ) - مشهوراً بِشهرة غريبة بين الطلبة -بِعبارة منسوبة اليه (العِراقيين جِياف ) !! كان يُداوم علىٰ ترديدها بين لحظة وأخرىٰ خلال إلقاء مُحاضراته الرائعة المُنفعلة عن الدرس والمتفاعلة مع موضوعه ... وعندما يتجرأ بعض الطلاب وخاصة مِن "الراسبين" في الصف - لِيسألونه - « وماذا عنك يا أستاذ .. وأنَتَ أيضا عراقي» ؟!

- كان يَرُد سريعاً من دون مُبالاة وبصوت بارد - «آني هَمْ جايف مِثلكُم » !

وحِينما كان هو - يسأل - (طالباً) خِلال الدرس - سؤالاً يتعلق بمادة دَرسه (حضارة بابل) - ولا يَتمكن الطالب من الإجابة - كان يَشتاط غضباً وَ يتوجه للطالب الكسول - بعقوبة "خطابة نفسية قاسية" - بالقول -
« تدرون ليش إحنا جياف" - لأنه لدينا هِيچ بَشر جايف - (وهُو يشير بعصا غليظة في يديه ناقِراً رأس الطالب الغبي) - لا يَهتَّم و لايَستلِذ بالوراثة بِتاريخ بلاده .! ثم كان يَستمر أستاذنا العزيز بِتفريغ ما يملئ نفسه من ألم فيقول

- « وأي تاريخ عظيم وحضارة ، لا يمتلكها شعب آخر في كل العالم مثيلاً لها - ولو كان رُبعها لدىٰ قبائل متوحشة في غابات الأمازون .. لكانوا قَدسُوها وقَبلُوا قطع آثارها وعبدُوها .. وَتغنىٰ بها أبناؤها الصغار - وهم يلعبون بين الأدغال .. هذه الحضارة البابلية التي لا نَعرف قِيمتّها ولا يَعجب مثل هذا "الأفندي الجايف" - تحضير وفِهم درُوسها - ”وهو يشير بالعصا للطالب الفاشل في إجابة السؤال” أينما توجه في الصف - فقولوا لي يا "جِياف" - متىٰ سَنفُك أسرار رموزها وطلاسمها و ألغاز عَظمتها .. ونفهم عُمقها ..! ونحن نَعتمد علىٰ "مُستشرقين ونباشين آثار" ليسوا بأبناء وطن .. يُخادعوننا بحقائب فَوق أكتافهم لانعرف ماذا يخفون فيها من قطع نادرة عندما يغادرون مواقع الآثار مع حٓلول المساء ..ويرتدُون "نظارات" فوق أعينهم "لِلفخفخّة" يرفعونها مِن علىٰ أعينهم، حِينما يتفحصون قطعة أثرية ما ..! وَيُسفهون الرموز .. و يُزيفون طلاسمها ويسرقون علومها ..!

بعد كل هذا وذاك - بين كل مرحلة زمنية وأخرىٰ من تغيير أو غزو للبلد .. أو خِلسة يختلسَّها (جِياف) في ليالي ظلماء - تَختفي آثارنا العظيمة - قطعة بعد قطعة علىٰ أيدي فرادا وجماعات خايسة رماهُم "هوا شرجي" - رِيح شرقية - كَقدر مزحلگ منبوذ على أرض العراق ..! هؤلاء (الجِياف ) الذين لايَجيدون أبجدية المواطنة ولا ماهية الحضارة .. لأنّ غرائزهم الدنيئة تقوم علىٰ نزعة - اللطّم والبچي والدِپِّچْ وسُرعة نزع اللباس!! ونَزع "التايرات" بمهارة - "يقصد بها العِقال" وفَرفَرتهُ بأيديهِّم (كَپهلواني ) رائع، ويَرقصُون بِشكل دائري مُنفرج - داير مَداير "السَرسرية" - الذين إغتنوا من خيانة الوطن ويرافقون رٓقصَهُم بهوسات شعبية مُلحنة على طگات الضراط، وَكأنهم "قُرود" علىٰ مسرح سيرك دائري - تدور حول سَايسِّيها - لتتلقف "قطعة جوزة" بعد أداءها لحركات پهلوانية مُلفتة للنظر » .. كانت هٰذه مجمل مضامين "خِطاب العقوبة" الدارجة المعتادة (للأستاذ العزاوي ) للطالب الغبّي الكسول في درسه - وكانت لا تَنتهي "عقوبة الإهانة" - إلا وَينطق الطالب الفاشل - قائلاً - ((آني جايف)) لثلاث مرات .! بعد كُل هٰذه السنوات وجدنا أن "الأستاذ العزاوي" صادق بتنبؤاته وإستشفافه !! وثبت صحة ما كان يُلقيه من (خِطاب) عقوبة لطلابه مع أول يوم إحتلال العراق .. مع نقل مَشاهد الجمع الجماهيري الغفير حول "مسرحية - ساحة" - هدم (تمثال القائد الشهيد) - الذي ضحىٰ مع رفاقه - بِشبابه في النضال وجميع سنوات وساعات قيادته - سَهراً - كالحارس الوفي الأمين في خدمة الوطن وشعبه - ولكي يبقىٰ شعب العراق مرفوع الرأس ! شأنه أشبه ب(بِالدكتاتورية الشرعية والمشروعة) الطيبة (للأب) الحنون الحريص علىٰ أهل بيته وخوفه عليهم مِن مذلّة ناقص .! نعم لقد ثبت لنا في تلك اللحظات التي كُنا نشاهد فيها لقطات "هدم التمثال" - أن هذا الشعب - (عدا ثُلة قليلة) - ليس له تقدير لأي أثر أو مَعلم تاريخي وطني .. وإن (جياف العراق) - سيتابعون - تدمير المعالم الحضارية والوطنية والثقافية و التراثية - واحداً تلو الآخر - بعد أن تم إطلاق فوهة "مجاري الدمقرطة والحرية“ أمام "جِيفهُم ".. وطالما هُناك مجاميع متنوعة بين الشعب - مُصابون (بداء القوادة والمگحبة الشيعوية الفارسية ) .. ولا يمتلكُون ولاءاً للوطن .. ويؤمنون انّ مفهوم التحضُر والحضارة يقوم علىٰ "اللطم وملئ البطون" بالحرام .. وأن الولاء عندهم غريزة تقوم علىٰ مُطارَدة روائح الحرام ولِبسان الفُسق وَطَهي القُدور - إن كان يَتم كُل هٰذا - علىٰ يَدِّ مُعمم أو قَس أو حَاخام فلهُ "الولاء" طالما هو مُعطي فَهو إمام !! لذا ترىٰ هؤلاء "الجياف" يَرون الحضارة بالتَحضر في إتساع رُقع "الملاهي وشُقق القِحاب" في أبراج عالية والتَباهي "بالمطاعم والبارات" .. وإن سئلت - (أنفخهُم بَطناً ولِلخشم رَفعاً) عَن أعدادها وأسماءها - لَعددُوها لَك مِن شمالها لجنوبها وشرقها وغربها دُون تلكؤ .. أما إنْ سألتهم عن (بطل أو مِلك بابلي سومري كلداني آشوري) يظلّ يُهزهِز برأسه "كالحِمار" , إذا إختلف عليه الأحمال - ليعبر عن "حِمارلغيته " .! بالطبع بإستثناء القليل من أهل العراق .. أهل الصفاء والنقاء .! الذين لاشك هُم أحفاد أولئك الأجداد العظام الذي أقاموا حضارات بين "وادي الرافدين" قبل ميلاد المسيح ب (15 ألف عام) ! ويؤلمنا أن نذكر للقارئ - كنا رأينا بِأعيننا هاتين - بٌصدفة مُحزنة - (عشرات القطع البابلية الأثرية) كان قَد إفترشها "جُندي عريف رُومي" فوق الأرض - شارك في غزو العراق .. في ساحة (سُوق نهاية الأسبوع) المشهور عندهم بإسم (سواب مييت - Swapmeet) .. يَبيع القطعة الأثرية الواحدة "بخمس دولارات" .! فَحِينما تَجاملنا معه عَن قصد - تَبين أنه تلقاها كهدية تذكارية في صَندوق لطيف كبير يوم توديعه مِن قبل (شيخ مُعقّل عراقي) في جنوب العراق بعد انتهاء مُهمته .. وجَعلنا أن نشاهد (صور) ذٰاك الإحتفاء "للشيخ الجايف الملعون" وهو يُطعمه وَ يّسلمه صندوق " أثريات حضارة بابل" ..!

ألا لعنة الله علىٰ "الجِياف" الىٰ يوم يُبعثون !!

تعليقات

أحدث أقدم