شرح الكاتب وليم هاريس في كتابه المعنون «ترسيخ الجذور: الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والجولان وغزة ـ سيناء» الصادر عام 1980 خطة الوزير اليساري، وليس اليميني، إيغال آلون (كان وزيرا للعمل في حكومة ليفي أشكول عام 1967) والتي تقضي بأن تحتفظ إسرائيل بالحكم المباشر على أجزاء من الأراضي المحتلة التي تمنح مزايا استراتيجية واضحة، ليس عبر الاحتلال العسكري فقط ، بل عبر تنفيذ سياسة شاملة للاستيطان اليهودي فيها، مع منح الفلسطينيين حكما ذاتيا مع روابط كونفدرالية مع الأردن و/ أو إسرائيل، دون الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني . ويصف هاريس هذه الخطة بأنها القاعدة الايديولوجية لبرنامج الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967 .
وبعد زيارة السادات إلى القدس بتاريخ تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن طرح هذه الخطة، أي إعطاء الفلسطينيين نوعا من الإدارة الذاتية باستثناء ما يتعلق بالأمن، مع تعديل بسيط يقضي بمنح الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة الجنسية الإسرائيلية . ووافق الرئيس الأمريكي جيمي كارتر على هذه الخطة للحكم الذاتي، واستبعد قيام دولة فلسطينية مستقلة ، ثم حاول تسويقها عربيا. حينها قال مستشاره لشؤون الأمن القومي زبيجنيو بريجنسكي قي مقابلة أجرتها معه مجلة باريس ماتش الفرنسية «باي باي منظمة التحرير الفلسطينية» في إشارة إلى أن رفض المنظمة لهذه الخطة جعلها مستبعدة تماما من أي مفاوضات حول القضية الفلسطينية. لكن منظمة التحرير الفلسطينية لم «ترحل» بل ظلت حاضرة، حتى بعد أن اضطرت إلى مغادرة بيروت عام 1982 إلى تونس، واستقبلت واشنطن الرئيس الراحل ياسر عرفات ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية لتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. وبقيت فكرة الدولة الفلسطينية حاضرة ضمنيا في اتفاقية أوسلو نفسها، وأصبح الحديث عن حل الدولتين موضع اتفاق دولي. في كانون الثاني/ يناير 2018 قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل ثقة :
«لا نريد التحدث مع طالبان، سننهي ما يتعين علينا إنهاؤه، وما لم يتمكن أحد آخر من إنهائه، سنكون قادرين على القيام ذلك». يومها صرحت لوريل ميلر (كانت تشغل موقع الممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان) لرويترز أن الهدف المعلن لاستراتيجية ترامب هو «زيادة الضغط العسكري على طالبان من أجل تحفيزهم على الانخراط في تسوية سياسية» وأضافت أنه لا يوجد دليل «على أن القوات الأمريكية والأفغانية قادرة على هزيمة طالبان في ساحة المعركة».
في 29 شباط/ فبارير 2000 وقع مبعوث إدارة ترامب إلى أفغانستان زلماي خليل زاد، وممثل حركة طالبان عبد الغني بارادار في الدوحة اتفاقية «تاريخية» أدت إلى انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل نهائي بتاريخ آب/ أغسطس 2021، وتسليم السلطة إلى طالبان!
هذا يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست قادرة على فرض ما تقرره قسرا، وليس كل ما يقوله ترامب، سواء أكان داخل الصندوق أو خارجه أو بعيدا عنه، قابلا للتنفيذ. فما طرحه ترامب في سياق فكرة « التطهير العرقي الصريح» في غزة، (وهو مجرد مقدمة للهدف الحقيقي وهو التطهير العرقي في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية ذات الحمولة التوراتية) لا يزال مجرد «فكرة عبثية» لم تتحول إلى خطة حقيقية بعد، لكنها عكست تحولا نوعيا في السياسة الأمريكية، ليس تجاه القضية الفلسطينية وحسب، بل تجاه العالم أجمع؛ فنحن أمام هيمنة غير مسبوقة للأفكار الإيديولوجية اليمينية على الإدارة الأمريكية، مصحوبة بنزعة شعبوية لا تؤمن بأي محددات (بما فيها محددات التاريخ والمنطق والقوانين أو حتى القواعد الاخلاقية) بعيدا عن زعم «الإرادة العامة» الشعبوية المفترضة التي يمثلها ترامب شخصيا. لكن مراجعة وقائع الولاية الأولى للرئيس ترامب، خطابا وسلوكا، ومراجعة التصريحات المتناقضة حول «فكرته العبثية» حول غزة نفسها، تثبت أن ما يقوله ترامب، في أحيان كثيرة، ارتجال محض يفتقد إلى الوضوح والتماسك، وبالتالي لا يمكن التعامل معه على أنه يعكس موقفا رسميا للولايات المتحدة الأمريكية أو أن تصريحاته قابلة للتطبيق على الارض (رغم أن الأوتوقراطية/ الحكم الفردي هي إحدى سمات الشعبوية).
إن الفكرة، وليس الخطة، التي طرحها ترامب والتي عجز عن تسويقها حتى اللحظة خارج دائرة إدارته وبعض النواب الجمهوريين الذين يرددون ما يقوله «الزعيم ترامب» دون تفكير، والإسرائيليون بطبيعة الحال، هي فكرة تتعامل مع غزة والقضية الفلسطينية، ككل، بوصفها مشكلة خلاف عقاري حول أرض مشاع (وليس حول الملكية) يمكن تسويته بنقل الساكن فيه إلى عقار آخر وتنتهي المشكلة! وهي فكرة عبثية غير قابلة للتطبيق بأي حال من الأحوال، ليس بسبب تمسك الفلسطينيين بأرضهم وحسب، بل بسبب عدم إمكانية توطين ما يقرب من 5.5 مليون فلسطيني من غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية (وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2024) وربما فلسطينيي الداخل أيضا (1.8 مليون نسمة) . فوفقا للأرقام لا يزيد عدد الفلسطينيين في الشتات خارج الدول العربية عن 1.2 مليون نسمة، في مقابل 6.4 لاجئ فلسطيني في الدول العربية . خاصة أن الحديث هنا لا يجري عن «لجوء» مؤقت، بل عن «إعادة توطين» وهي عملية ليست شبه مستحيلة، بل مستحيلة تماما . في الولايات المتحدة الأمريكية هناك رابطة تسمى «الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين» ومختصرها باللغة الانكليزية NAR. ولهذه الرابطة قانون أخلاقيات خاص بها تبنته عام 1913. تتضمن مادة تنص على أن جميع الاتفاقات المتلعقة بمعاملات العقارات ، يجب أن تكون مكتوبة بلغة واضحة ومفهومة تعبر عن الشروط والأحكام والالتزامات المحددة للأطراف (المادة 9) وأنه لا يجوز للوسطاء العقاريين أن يكونوا طرفًا في أي خطة أو اتفاق للتمييز ضد شخص أو أشخاص على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الإعاقة أو الحالة الأسرية أو الأصل القومي أو التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية (المادة 10). لم يلتزم الوسيط العقاري ترامب بهذه الأخلاقيات عند طرح فكرته العجيبة، كما أن «الرئيس» ترامب لم يلتزم بمعايير القانون الدولي أو حتى بالمنطق حين طرح فكرته العبثية!
إرسال تعليق