(ثورة بلبل)

مشاهدات




قصة قصيرة بقلم : خالد عثمان السبع


أصبح الهروب من صخب المدينة الكبيرة وضجيجها وهوائها الملوث الخانق, عادة محببة للحاج (سعيد) ذي الرابعة والسبعين عاما, إذ دأب على التوجه بالسيارة إلى القرية الوادعة الغافية على النهر بين فترة وأخرى برفقة أحد أولاده, لاسترجاع ذكريات طفولته وتنسم عبق ماضيه المترع بالبراءة والنقاء, مدفوعا بحنينه المستديم المستعر إلى جذوره الغائرة في كل شبر من تلك البقاع الخضر التي شهدت نشأته الأولى ومرحه الطفولي الجميل في بيت العائلة وفي زوايا بستان والده الملاصق لتلك الدار الطينية ذات السقوف المصنوعة من جذوع وسعف النخيل . في إحدى تلك الزيارات إلى تلك القرية الصغيرة الوادعة التي فارقها (سعيد) منذ عقود بسبب الدراسة والوظيفة, اصطحب معه، هذه المرة، ولده البكر المهندس (أكرم), سالكين الطريق الزراعي الملتوي والممتد بتناسق جميل مع انعطافات النهر المتعاقبة, فتح الأب باب السيارة ونزل أمام عتبة داره العتيقة المهجورة, تنهد لبضعة دقائق ثم دفع الباب الخشبي المتهالك نصف المفتوح, ودلف إلى باحة الدار... فوقف في وسطها ولاحظ أنها امتلأت بالأشواك والعوالق, جال بعينيه المتعبتين في جميع أجزاء الدار التي كان يوما ما, تموج بالحركة والنشاط, فبدأ بغرفة أبويه, غرفة الجدة والبنات, غرفة الأولاد, الطارمة, وأخيرا تحول الى زريبة المواشي . أخذ العجوز نفسا طويلا وشرع يردد بعضا من أبيات الشعر الشعبي بنغمة حزينة, قائلا :


يا دار . . مو جنتي زهيه

وجانت قناديلج ضويه

ويا محله بيج جمعتنه سويه

 ألف وسفه من صرتي خليه


تذكر الحاج (سعيد) منهاج العمل اليومي ذي المواقيت المحددة غير القابلة للخرق, الذي فرضه والده, الفلاح الصارم, على أفراد الأسرة والذي يبدأ مع أول صيحة ديك عند الفجر,  إذ يهم الجميع بأداء الفروض الدينية, ثم شروع الوالدة بحلب الأبقار في الزريبة فقيامها بتجهيز الخبز الطازج ذي الرائحة المميزة التي لا تقاوم , والذي يكون جاهزا على مائدة الفطور مع حليب البقر والبيض والزبدة. بعد الفطور مباشرة, تتوزع الأعمال على أفراد الأسرة بإنتظام والتي تشمل, إخراج المواشي إلى المرعى, خروج الأب مع بعض الأبناء إلى البستان لجمع الخضراوات الموسمية, لجني بعض الثمار, وللعناية بالأشجار أو لجمع الحطب. إن أكثر شيء أزعج الصبي (سعيد) في ذلك الحين هو تكليف أمه له بالتوجه إلى خُمّ (قِنّ) الدجاج لجمع البيض, والذي يعني له الاستعداد لمواجهة غضب وهياج تلكم المخلوقات الصغيرة وتحمل أذاها, أثناء محاولته مد يده الغضة لالتقاط البيض من تحت أجسامها التي تزداد التصاقا بالأرض كوسيلة للدفاع ضد الأعداء المتطفلين, في ذلك الوقت, لم يستوعب ذلك الصبي, على وجه اليقين, ذلك الشعور الجارف والسلوك العنيف الذي يدفع تلك الدجاجة الضعيفة البكماء للاستماتة في الذود عن ثمرة فؤادها ببسالة فتتحول إلى وحش كاسر من فورها, مستخدمة مخالبها البارزة ومنقارها الحاد, ضد ذلك الصبي الساذج الذي يحاول إقتحام عالمها الخاص وانتهاك خصوصيتها للاستيلاء على بيضها ومصادرة حقها الشرعي في الأمومة مثل سائر بقية المخلوقات, ومع الأيام, تعلم (سعيد) من تلك الدجاجة المستميتة, درسا بليغا في الثبات والدفاع عن حقوقه المشروعة بكل ما أوتي من قوة . أستمر الرجل العجوز في تفحص جدران المنزل المتهالك فلاحظ وجود قضيب حديدي مازال مغروسا في أحد جدران الباحة, فقال لولده :


- (أكرم), أنظر إلى هذا القضيب, هنا كان يُعلق قفص خشبي يضم بداخله بلبلا عزيزا على قلبي, حصلت عليه ذات يوم من شقيقي (أسعد) الذي لقي حتفه في حرب الثماني سنوات.

- اعتقد أنني سمعت منك قصصا ممتعة من قبل عن تعلقك بذلك الطير الجميل.

- بلى، هو بلبل صغير سقط من عش وكان لا يقوى على الطيران, فحمله لي شقيقي لأرعاه فتعلقت به إلى حد الهيام , كنت اشتري له تينا وتمرا وبطيخا من مصروفي اليومي مؤثرا إياه على نفسي, حتى إمتلأ قلبي شغفا وتعلقا به وبشدوه الطربي العذب الذي كان يملأ الدار بهجة ونشوة .


استرسل (سعيد) في شرح هيامه بذلك الطير الفريد المبهج ودأبه على الاستئناس بصوته العذب وهو يطيل تغريداته الساحرة بنغمات متنوعة, إذ كان الصبي يحسب إنّ ما كان يسمعه من شدو وتغريد هو تعبير من البلبل عن فرط سعادته وهو يحظى بالاهتمام وقد يكون عرفانا منه بالجميل على حسن الإطعام والرعاية التي كان يسديها له صاحبه الطفل الغرير.  ذات يوم, أسرع الصبي (سعيد)  بالوصول إلى الدار بعد مغادرته للمدرسة ليحظى بلقاء بلبله الحبيب ويتلذذ بإطعامه والتودد إليه كما هي العادة, ولكنه ترك باب القفص مفتوحا للحظة واحدة, بغية أعادة إملاء إناء الماء, فاستغل البلبل الحبيس الفرصة وغادر القفص بسرعة البرق هاربا نحو كبد السماء حتى تلاشى نهائيا وسط ذهول الصبي الذي كان لا يزال يحمل إناء الماء الصغير بين أصابعه . حدق الحاج (سعيد) في وجه ولده متسائلاً :


- ترى, هل كان ذلك البلبل يحبني كما أحببته أم هو مخلوق جاحد وناكر للجميل كما هو شأن الكثيرين من حولنا في هذا الزمن الرديء؟

- أبتي, أنا اعتقد بأنه أحبك, دونما شك, ولكنه كان يحب حريته أكثر منك ومن أي شيء آخر. فمن الظلم أن نسلب مخلوقا بريئا حريته لمجرد اللهو والعبث. 

- أنت محق.

- أبتي, أظن ما كنت تسمعه من تغريدات ممتعة لم تكن إلّا أنات موجعة ممزوجة بشجن حزين كان يرددها بلبلك المعتقل بسبب وطأة السجن ومرارة الاستعباد بينما كنت أنت تمرح وتلهو على هواك . إستحسن الحاج سعيد جواب ولده المهندس الشاب (أكرم) فقال :

- صدقت, فمنذ تلك اللحظة كرهت أنا حبس طير في قفص ولم أكررها في حياتي أبدا.

رد (أكرم) :

- لا أعلم كيف يجرؤ شخص ذو سلطة على سلب مواطن حريته فيقبع ذلك المنكود حبيسا في قفصه سنينا طوال بلا جريرة وبلا محاكمة؟!


في أثناء سلوك طريق العودة, نظر (سعيد) إلى السماء فرأى سربا من الحمام يطير عاليا في كبد السماء الزرقاء الفسيحة وهو يطلق هديلا ساحرا بأنغام فريدة ملأت المكان نشوة وبهجة, استمر السرب دائرا حول محيط القرية بتشكيلات دائرية رائعة, تتقلص وتتمدد أفقيا وعموديا, استمرت الاطيار في مرحها وطيرانها الجماعي المبهر الذي يشبه رقصة مثيرة لفريق باليه روسي محترف، وهي تستمتع بحريتها التي صار يفتقدها اليوم الكثير من البشر من الذين غيبتهم السجون السرية والمعتقلات الرطبة المعتمة.

تعليقات

أحدث أقدم