مشاهدات
صباح الزهيري
يهمس المندلاوي الجميل : ((مابين شوك وصبر خلصن سنين العمر )) , نص أستله من أغنية أستوطنت وجداننا فترة السبعينيات زهرة العمر الجميل ( يكولون غني بفرح ) للشاعر جبار الغزي , وهي اغنية أعتبرها من مثابات القلب , بل هي بيرق الأشواق في ميدان القلب , لها عدا ما فيها من حساسيات طربية وتعبيرية ذكريات جانبية تأبى ان تخبو , ولكن مأساة شاعرنا الخائب انه أضاع البوصلة , وراح عبثا يفتش عن بهجة عند الناس القساة القلوب , فغرق بالاشجان الى رأسه حد الضياع , ما بين الشوارع والفنادق والحانات والمقاهي , والمفارقة ان هذا الوجع القاتل , هو فرحته القصوى . الغريب أن هذه الأغنية , التي تجلب الكآبة والنكد لسامعيها , محبوبة ومطلوبة بكثرة من قبل أوساط واسعة من العرب , تقول الأغنية :
(( احرگ خطوط العتب/
وانثرهه ويه الريح/
وانسى محاجي العشك/
يا بو شعر تسريح/
والعمر شمعة انطفت /
وكل السوالف گضت )) ,
كان العاشقون ايام زمان , يتبادلون المكاتيب الورقية المعطرة , فهي رسل الغرام بين المحبين القدامى , وكانوا يسردون فيها الكثير من التفاصيل , ويبوحون بالاشواق الحارة , ويطيلون بتدوين الكلام الخفي وكثرة العتاب , وهنا الشاعر يأمر الحبيب بحرق الرسائل ونثرها مع الرياح العاوية , وهذا دليل الجفاء والخراب والنسيان , فالعمر تلاشى بلا معنى , وانتهت معه كل الحكايا السابقة . (( الغناء حشيشتُنَا الْمُنْتقاةُ , رسائلنا الى مستوطني القلوب , سيّارةُ إسْعافٍ تُنْقذُنَا منَ السّكْتةِ الدّماغيّةِ وحسرة المستحيل , عصير القلوْبٍ التي تحبُّ الْحياةَ , الا ولّيْتُ وجْهِي صوْبَ الغناء لِأموتَ شعْراً , فلْنحب الغناء مَااسْتطعْنا, ونحن نعرف ان المغنون يتْبعُهُمُ الْغاوونَ , والمغنيات هنَّ الْغوايةُ )) , وفي بقايا الطريق يقل الرفاق , وكلما قلوا اكثر استقامت الخُطى , وخفَّ الاضطراب والغبار , وصار للغناء مع النفس حلاوة وبهجة , ترى هل جربتم صغارا تلك البهجة ؟ لقد كان الطريق موحشا بكم وسيظل كذلك بعدكم , فالوحشة لم تكن بسبب الرفقة إنما بسبب الطريق نفسه . الى عهود قريبة كان العراقي في الريف او المدينة , في الحقل او الحانة , يدندن او يرفع عقيرته عاليا بالغناء اذا ما داهمته الوحدة او الوحشة , كنّا حين نعود من الحقول او البساتين فرادى وتعتم الدروب وتتصايح الثعالب والكلاب , ويلامس الخوف أعطافنا النحيلة الراعشة , نرفع عقيرتنا بالغناء لتفادي وحشة الخوف ,هكذا علمونا , اذا اوحشتك الدروب وكنت وحيدا فغن ِّ , ارفع الصوت بأقصى ما تستطيع وغن ِّلا شيء يطرد الخوف كالغناء , وإن خسرت فغن ِّ , لاشيء يعوض الخسارة غير الغناء , رغم ان هناك خسائر لاتحتاج لان تعوضها , فهي مجرد أعباء اثقلت كواهلنا بها سوء تصاريف الزمان . تذكرت مأمون الشناوي , كان عاشقاً وشاعراً وكاتباً, وكان ابن مدينة , يعشق السهر ويكتب على إيقاع النيل , وكانت له حكايات في بؤس العاشقين وغوى العاشقات , أما الرحباني عاصي فكانت رئتاه ممتلئتين بنسائم القرى وأهازيجها , وتراثها الحافل بتسالي الحياة المعزولة في الجبال , والعباقرة لا يتشابهون وإن تجاوروا في الزمن والأمكنة , يطوي العبقري عصره تحت إبطه ويمضي به , لذلك نتطلع حولنا اليوم فلا شيء سوى مئوياتهم , وفي كل مئوية ألف عبقرية وجمال وخاتمة , لا مأمون الشناوي في مقهى الهيلتون يبكي أمام الرفاق لأن نجاة الصغيرة كذبت عليه , ولا عاصي الرحباني في مكتبه يكتب الشعر, أو الموسيقى , كمن يعد دفتراً مدرسياً , ولا صاحبنا الغزي ذلك الشاعر الضائع في دروب بغداد , والطير الاغريقي الذي لا يتحمل نسمة هواء تداعب ريشه كما يقول عن نفسه والذي تناساه عمدا او سهوا كل من له علاقة بالكلمة , ولم يعد يكشف عن رؤية تقترن بطبيعة الذات التي هي جزء من الذات الجمعي وتكوينها الفكري .
(( بسّك تره أتعدّيت حد الجفه أوياي
أعطش وأضوك الموت وبجفّك الماي
يكولون غني بفرح وانه الهموم غناي
بهيمة ازرعوني ومشوا.. شحوا علية الماي)) .
إرسال تعليق