(( أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم/ يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ)) .
كان الرفاق الشيوعيون ومن ثم البعثيون يعتنون بتربية شواربهم , علامة على انتمائاتهم ودرجاتهم الحزبية , وحين تولى الأسلاميون الحكم بفضل من وهبهم أياه , وعندما تكاثرت الأحزاب والتيارات ألأسلامية , بدأنا نلمس علامات تدل على انصارهم بأمتلاكهم ذقون ولحايا مختلفة الكثافة , كل منها يدل على حزب معين , وبدأوا يتبوأون مراكز السلطة ولا يشترط إن يكون صاحبهم عبقريًا في الاقتصاد أوالهندسة أو جاهلًا بشؤون السياسة , المهم أن يكون الذقن واللحية مرآة الشخصية وسمة النضال . بدأت هذه الأحزاب تثقف بالدعوة إلى العودة إلى (( القيم الأصلية )) والمظهر الحسن , معتبرة أن الذقن رمز للحكمة والوقار , وفعلا رأينا انهم شكلوا حكوماتهم من الأعضاء الأكثر ذقنًا , بدءًا من رئيس الوزراء الى بقية التشكيلة , وبالنسبة للشعب وخصوصا المتسلقين منهم فقد تحولت الذقون من مجرد شعر ينبت على الوجه إلى رمز اجتماعي وسياسي , كان الوزراء يتفاخرون بطول ذقونهم , ويُقاس نضالهم السياسي المتخيل بأشكال هذه اللحايا والذقون . مع مرور الوقت , بدأت المشاكل تتراكم في ظل حكومة ذوي الذقون , وبدأ الشعب يدرك تدريجيًا أن الذقن لا تعني شيئًا حقيقيًا من حيث الكفاءة أو الحكمة , وراح المواطن يتسائل هل الذقن حقًا هو ما يحدد من يستحق الحكم ؟ ماذا عن النساء ؟ ماذا عن الرجال الذين لا تنمو ذقونهم بسهولة ؟ وماذا عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي أهملتها الحكومة لانشغالها بالعناية بذقونها ؟ وهل ان فشلُ النظام في معالجة القضايا الحقيقية يعود فقط إلى غياب الذقن المناسبة ؟ هكذا شاهدنا البلاد تنهار ببطء , والاقتصاد في ركود , وتوقفت العلوم , والناس يعيشون في خوف دائم , مع ذلك , ظل حكم الذقون قائماً , وازداد جنون النظام حتى أصبح العالم بأسره يسخر من بلاد حيث الذقون فيها أسمى من العقول .
أدّت اللحية دوراً مهماً في العقيدة الدينية , فالفراعنة كانوا يضعون لحى مزيّفة من المعدن للتشبه بالإله أوزوريس الذي كان ملتحياً , وذلك لأنّهم كانوا يحلقون كامل شعر وجوههم , وذلك تبعاً لعادات النظافة لديهم , ومن عادات العرب في الجاهلية عند الصلح أن يمسكوا لحى بعضهم البعض دليلاً على الصلح , كما حصل في صلح الديبية حين كان عروة بن مسعود الثقفي , يمسح بيده على لحية الرسول , ثم اني وجدت ان ابن طباطبا يحذر من حلق اللحية ويقول : (( يا من يزيل خلقة الرحمان عمّا خلقت , هل لك عذر عنده إذا الوحوش حشرت , في لحية إن سئلت بأي ذنب نُتفت )) , وربما يعود موقف ابن طباطبا إلى حديث الرسول : (( الشعر الحسن من كسوة الله , فأكرموه )) , أو لقسم زوجة الرسول عائشة باللحى : (( لا والذي زيّن الرجال باللحى )) . اختلف الفقهاء في حكم إعفاء اللحية على قولين اثنين : الأول , وجوب إعفائها , وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة , والثاني استحباب إعفائها , وهو ما ذهب إليه بعض متأخري الشافعية , وهذا ابن المعتز يمتدح غلاماً ظهرت لحيته ويقوي من عزم عاشقه الذي بدأ يخاف الملامة :
(( لعمرك ما أزرتْ بيوسف لحية/
ولكنه قد زاد حسناً وأضعِفا ,
ولا تعتذر من حبهِ في التحائه/
فما يحسن الدينار إلا مشنّفا )) ,
ومن شعر الشريف الرضي في اللحية
(( رَأَت شَعَراتٍ في عِذارِيَ طَلقَةً/
كَما اِفتَرَ طِفلُ الرَوضِ عَن أَوَّلِ الوَسمي ,
فَقُلتُ لَها ما الشَعرُ سالَ بِعارِضي/
وَلَكِنَّهُ نَبتُ السِيادَةِ وَالحِلمِ )) ,
أما أبو تمام فهو يصف كيف تبدل حال غلام أمرد , مَلِك قلوب العشاق , إلى حال النسيان وحتى الموت بعدما ظهرت لحيته
((ومتّ حيّاً بلحية طلعت/
عليك قد كنت قبلها ملكا ,
إذا رأيت الغلام قد طلعت/
بخده شعره فقد هلكا )) ,
ويتابع في ذلك تلميذه البحتري :
((لكل شيء حسن آفة/
وآفة المرد في خروج اللحى )).
كانت جماعة العصور الوسطى قد نحت نفس المنحى حيث ألقى توماس جوينج في القرن التاسع عشر, عدّة محاضرات عن أهمية اللحى , بعدما رأى ما حدث للحى البريطانية الكثة والقوية من ضعف نتيجة الحلاقة , وجمع هذه المحاضرات في كتاب اسماه )) فلسفة اللحى The Philosophy of beards (( قال توماس : (( إنّنا ثديّات فروية الوجه , وإنّ الطبيعة تعلم ماذا تفعل , وإنّه لمن المستحيل أن تنظر إلى لوحات لأشخاص ملتحين دون أن تشعر بما يمتلكونه من الكرامة والمهابة والوقار والاستقلال والحيوية والكمال , وعلى النقيض من ذلك , فإنّ مظهر الرجل نظيف الوجه حليق الذقن يجعله يشعر بالعري المبتذل الزائف )) . اما لو تطلعنا لوضع تقدير موقف لآفاق المستقبل , فسنجد ان الحكومات الأسلامية ستتوسع في سلطاتها , وستصدر قوانين مثل تصنيف المواطنين حسب كثافة ذقونهم , وستننشئ سجل وطني للذقون يُعرف باسم ( قلم اللحايا ) أسوة بقلم العشائر السابق , حيث تُمنح درجات لكل مواطن وفقًا لطول ذقنه و كثافتها ولمعانها , وسيصبح الذقن معيارًا وحيدًا للتوظيف والتعليم والزواج , وسيتم وضع أولئك الذين لا يستطيعون تنمية ذقونهم لأسباب جينية أو طبية في خانة (( المواطنين القاصرين )) .
إرسال تعليق