الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

مشاهدات

نزار السامرائي


قال المقداد بن الأسود الكندي في رسالة جوابية لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصف فيها الفرس (إنهم علوج عجاف ونعاج ضعاف، سيدهم القوي وعبدهم الضعيف، يلبسون الخيانة وينزعون الأمانة، تنقصهم الأخلاق وتلهو بهم الأهواء، لا تعرف رأسهم من الذنب إذا شددت عليهم أرخوا وإذا أرخيت عليهم شدوا) الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين .

المقدمة
عانى العراق من القضم التدريجي لحدوده البرية والمائية من جهة الشرق، حيث توسعت أراضي بلاد فارس (إيران) على حساب الأراضي العراقية على مر العصور، ويمكن الاستدلال على ذلك من معاينة سريعة لخريطة الحدود بين البلدين والتغييرات التي دخلت عليها خلال القرن العشرين فقط، من دون الحاجة إلى العودة إلى قرون بعيدة، وأيضا بإجراء مقارنات بين الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية بين البلدين، ليعُرف حجم الغبن الذي لحق بالعراق نتيجة نزعة التوسع الإيراني المدعومة بقوة السلاح، بصمت دولي حينا، ودعم معظم الأحيان، وخاصة من جانب الدول الكبرى، التي كانت تميل على الدوام إلى جانب إيران، حيث ترى فيها كيانا واحدا ومحصورا في حدوده الإقليمية، يُغض النظر عن توسعه ليكون مكافئا نوعيا للعرب جميعا في واقعهم الراهن المجزئ، حتى مع احتمال قيام دولة عربية واحدة، قد تطيح بأحلام القوى الدولية باستمرار هيمنتها على المنطقة وثرواتها الطبيعية، وعادة ما تتغير أهداف الدعم الدولي لإيران، على وفق حسابات مستجدة، تخدم الهدف النهائي لتلك القوى، لا سيما عندما تكون إيران قادرة على إثارة أسباب الانقسام داخل المجتمعين العربي والإسلامي. لقد بات الحفاظ على حدود العراق مع إيران، مهمة تكتنفها صعوبات كبيرة بسبب أطماع إيران الراسخة في الأراضي العراقية من جهة، وعدم دقة الاتفاقيات التي تنظم العلاقات الثنائية بين البلدين وافتقارها للوضوح من جهة أخرى، بما في ذلك رسم مسار محدد للحدود الفاصلة بين البلدين، على نحو يقطع دابر التأويلات المغرضة من قبل إيران التي كانت تكرس المكاسب الجديدة، وهي في الوقت نفسه تخطط لتمدد آخر على حساب الأراضي العراقية، تمهد له بتأزيم العلاقات الثنائية، وتحرك قوى عراقية مختلفة الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية والسياسية، في تنفيذ ما ترسمه إيران لها من خطط، وهذه القوى كانت قد ارتبطت بها في ظروف مختلفة، وتلقت الدعم منها ماليا وعسكريا وسياسيا وإعلاميا، من أجل إضعاف الحكومات العراقية المتعاقبة، والدخول معها في مفاوضات لاحقة في ظل ظرف عراقي داخلي مرتبك وقلق، يسمح لإيران بتوظيف الوضع المعقد فيه نتيجة الانقسام السياسي والعرقي والمذهبي، بما يؤمن لها الحصول على مكاسب جديدة على الأرض والمياه العراقية، وربما يعكس توقيع أكثر من سبع وعشرين اتفاقية ومعاهدة وبروتوكولا، بين إيران والدولة العثمانية أو مع الدولة العراقية بعد استقلال العراق عن الدولة العثمانية، حجم المعاناة التي تكبدها سكان العراق من جيرة فرضتها حقائق الجغرافية، ولكنها تسعى لفرض حقائق تاريخية وسياسية، لم يكن ممكنا الحصول على أفضل منها من وجهة نظر الحكومات العراقية كلا حسب ظرفها . تثير مشكلة الحدود العراقية الإيرانية التي ما زال العراق يعاني منها منذ أن كان جزءا من الدولة العثمانية، وحتى بعد أن أصبح دولة مستقلة ذات سيادة في 23 آب/أغسطس عام 1921، تثير تساؤلات ملحة وإشكاليات كثيرة سياسيا وقانونيا، عن مكمن الخلل الذي كان يؤدي على الدوام إلى إلغاء المعاهدات والاتفاقيات من جانب إيران، هل هو في الصياغات القانونية الغامضة أو الضعيفة التي تكتب فيها؟ أو في الإرادات السياسية لكلا الجانبين؟ أم يكمن في عوامل التأريخ وبعض صفحاته التي تستثير ضغائن غير قابلة للحذف من الذاكرة الجمعية أو السياسية؟ أو لعوامل غبن الجغرافية الذي كان يشعر به أحد طرفي النزاع؟ أم في نوايا التوسع والهيمنة التي تسيطر على عقلية حكام إيران عبر التاريخ ؟

ويسلط هذا الكتاب الضوء على المعاهدات والاتفاقيات التي تم توقيعها بين الجانبين، ويناقش ما جاء فيها من خلل ونقص وسوء قصد في الصياغة من جانب الطرف المشاكس دائما وهو إيران، ويدرس عوامل إلغاء السابق منها والدوافع لتوقيع اللاحق، كما يحاول أن يسلط الضوء على الفرق بين المعاهدة والاتفاقية، مع مرور على المعاهدات الأولى التي وقعت بين الدول في التاريخ، وأهميتها في تطور وعي الشعوب في نبذ استخدام القوة في المنازعات الدولية. تتركز أهمية الحدود العراقية الإيرانية خصوصا والعلاقات بين البلدين عموما، في أنها أدت إلى حروب طاحنة كثيرة وطويلة بين العراق حينما كان جزءا من الدولة العثمانية، وبين الدولة الفارسية، أو بعد استقلال العراق عن الدولة العثمانية، فأدت إلى ما أدت إليه من إزهاق الملايين من الأرواح على جانبي الحدود، خلال خمسة قرون من تاريخ العلاقات المتأزمة بينهما، مع أنها لم تعرف الهدوء منذ قيام منظومة الدولة على طرفي الحدود، والتي كان السلام هو الاستثناء لاستراحة المحاربين، فالحروب هي السمة البارزة التي تميزت بها العلاقات بينهما، كما أدت إلى دمار واسع ليس في ساحات المعارك ولا في المدن الحدودية فقط، وإنما كانت نتائج الحروب تمتد إلى عمق الأراضي داخل كل بلد منهما وتتسبب في تدمير البناء القائم من بنى تحتية ومصانع ومنشآت، وإعاقة أسباب البناء والرقي. ودوامة الحروب هذه كانت تدور، لأن إيران لم تشأ أن تتخلى عن أوهام التوسع على حساب الأراضي العراقية كما سنلاحظ من الاتفاقيات السابقة، ولم تركن إلى منطق العقل والحكمة في علاقاتها مع جارها الغربي، نتيجة لعوامل تاريخية مركبة مع دوافع خفية أخرى لا تريد طرحها علانية، وألقت بمبدأ علاقات حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية عرض الحائط . وكانت بلاد فارس تذهب إلى توقيع اتفاقية جديدة كلما رأت أنها تصب في مصلحتها، أو بسبب اضطرارها على ذلك تحت ضغط القوة العسكرية للطرف الآخر، أو نتيجة ضعفه مما يمكنها من الحصول على مكاسب وتنازلات كبيرة، لا تستطيع مقاومة إغراءها، ولكنها وهي تضع توقيعها على أية اتفاقية أو معاهدة، فإنها تخطط لنسفها تمهيدا للحصول على مكاسب أكبر مما حصلت عليه، وهكذا تتكرر الاتفاقيات والحروب على جانبي الحدود . ولما كان البلدان قد وقعا أكثر من 27 معاهدةً واتفاقيةً وبروتوكولا من عام 1555م عندما تم توقيع اتفاقية أماسية، حتى عام 1975م عند توقيع اتفاقية الجزائر، فإن هذا الملف سيبقى حاضرا في ذهن المراقبين والمهتمين بهذا الملف والعراقيين منهم بشكل خاص، على شكل أسئلة مريرة عن أسباب ودواعي توقيع كل هذا العدد من الاتفاقيات بين البلدين، إذا لم تكن كفيلة بوضع حد لنزاعاتهما الطويلة؟ ولماذا لم تصمد أي منها أمام تطورات الظروف السياسية المستجدة بين البلدين أو على المستويين الإقليمي والدولي؟ وكيف يمكن أن يوضع حل حقيقي ونهائي لمشاكل البلدين على الأراضي والمياه والأمن والثروة على جانبي الحدود والقضايا العالقة الأخرى؟ بحيث يستطيع مواطنو البلدين رؤية علاقات حسن جوار بينهما وتعاون مشترك في مختلف المجالات الاقتصادية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام خيارات الطرف الآخر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. لا يقتصر البحث على معالجة مشكلة الحدود العراقية الإيرانية في الماضي القريب أو في العصر الحديث فقط، بل يعود إلى الماضي البعيد، ليتناول العلاقات بين الدول في مختلف العصور، وكذلك يتناول العلاقات الدولية والحدود بين الدول وكيف تطورت عملية تخطيطها، ولما كانت معضلة الحدود العراقية الإيرانية هي محور لواحدة من أقدم أزمات المنطقة ونشبت بسببها حروب كثيرة منذ القدم، فقد تناول البحث عرضا تداخلت فيه السياسة بالقانون والتاريخ بالجغرافية والعامل الديني والتباين المذهبي والاختلاف في التوجهات السياسية، وكذلك نتدارس المؤثرات الجديدة لاسيما التقاليد الاجتماعية السائدة والتباين في مستوى المعيشة والاختلافات العرقية والقومية بين العرب والفرس، وفي البحث متابعة لعرض الحقائق بالتحليل والاستنتاج، وصولا للغاية النهائية للبحث، وهي التعرف على أهم المحطات التي توقفت عندها العلاقات وتأزمت أو سارت على رتابتها بين البلدين، وأهم العوامل التي أدت إلى سقوط الاتفاقيات والمعاهدات الواحدة تلو الأخرى. على الرغم من كثرة الكتب والدراسات التي تعالج الأزمات السياسية والأمنية على جانبي الحدود العراقية الإيرانية، فإن المكتبة العربية ما تزال بأمس الحاجة إلى بحوث ودراسات أكاديمية تتناول أسباب التوتر في العلاقات العراقية الإيرانية، وعلى نحو خاص اتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية المبرمة بين البلدين من زوايا قانونية وتاريخية، وعلى كثرة ما كتب فيها من تفصيلات والتزامات متبادلة، فإن الغالبية العظمى من تلك المؤلفات كانت لكتاب وباحثين غربيين لم يتمكنوا من ملامسة العمق التاريخي لأسباب النزاع بين بلاد فارس والدول التي قامت في العراق . وما زال هذا الموضوع بحاجة إلى المزيد من الرسائل الجامعية التي تتناوله بالبحث التفصيلي، من أجل إيجاد جواب شاف لسؤال ظل يتردد باستمرار، لماذا لا تصمد الاتفاقيات والمعاهدات بين الجانبين طويلا؟ ويدور سؤال مهم آخر، هل كان خلل الاتفاقيات في صياغاتها القانونية؟ أم في النوايا السياسة لأحد طرفي المشكلة أم كليهما؟ أم لعوامل تاريخية تحاول فرض واقع جغرافي جديد على خريطة الحدود بينهما؟

لقد عانى العراق طويلا من غبن الجغرافية والقضم التدريجي الإيراني لأراضيه، ولكنه قضم مُصممٌ بعناية من قبل الحكومات الإيرانية، التي يسقط بعضُها بعضا، ويتبرأ اللاحق من سياسات السابق، ولكنها كانت تتطابق مع سابقتها بشأن قضية الحدود الإيرانية مع العراق بشكل خاص، ومع نوايا التمدد على حساب منطقة الخليج العربي وفرض الهيمنة عليها، إذا أردنا أن نأخذ ببعض عوامل التطور التاريخي للأمم فقد نجد تفسيرا أن قبائل العيلاميين المتخلفة والتي كانت تعيش داخل الأراض الإيرانية، كانت على الدوام تشن غاراتها على الدول التي تأسست على ضفاف دجلة والفرات، وكان بعض تلك الغزوات يحقق أهدافه، وبعضها ينبه دول المدن للالتقاء مع بعضها ومواجهة الخطر القادم من الشرق في التاريخ القديم بصفة مستمرة. إن هذا المؤلف يمثل "كما أرى"، إسهاما متواضعا في عرض القضية بموضوعية، ولكن من وجهة نظر عراقية تشعر أن العراق تعرض لظلم طويل من جار شرقي يحمل موروثا من العقد العصية على الحل. تم في تأليف الكتاب اعتماد طرق منهجية متعددة للوصول إلى المعلومات والحقائق الميدانية، التي أفرزتها تجربة تاريخ طويل من جيرة قلقة بين العراق وإيران، كان التوتر على طرفي الحدود أكثر بكثير من سنوات الوئام، منذ أن عرف البلدان منظومة الدولة المركزية فيهما، ونحن نرى عن يقين بأن مادة التاريخ الحديث، لوحدها لا تكفي لاستخلاص الدروس والعبر المطلوبة في بحث يعالج مشكلة بهذا الحجم من التعقيد، فتمت العودة إلى المصادر التاريخية القديمة وإلى المصادر والمراجع القانونية ذات الصلة بالمشكلة والعودة إلى الأسباب القومية والدينية والطائفية للنزاع، وما ينتج عنه من تداعيات داخلية، فإيران كانت بصفة مستمرة قادرة على التأثير على الوضع العراقي داخليا أكثر من قدرة العراق على التأثير في الشأن الداخلي الإيراني، ولا يرتبط هذا السلوك بحقبة زمنية واحدة، بل هو ظاهرة مستمرة مع جميع النظم والحكومات، ويعكس هذا تقاليد نظم الحكم في إيران في التدخل في شؤون الغير، من دون أن تقيم وزنا لمبادئ السيادة الوطنية للدول، أو لما تعقده من اتفاقيات ومعاهدات معها، فالمزج بين التاريخ والجغرافية والقانون والعلوم الاجتماعية، وتداخلها بموضوع الدين والاختلافات المذهبية، والتباين القومي بين البلدين، كانت على الدوام سلاحا تستخدمه فارس ومن ثم إيران في علاقاتها مع العرق. والتحليل الموضوعي واستنتاج الخلاصات النهائية، كان أساس المنهج المعتمد في تأليف الكتاب الذي نريد له أن يكون إضافة إلى المكتبة العربية في موضوع بات يشغلها أكثر مما كان يفعل في السابق. من أجل تحقيق الهدف المطلوب من البحث فقد تم تقسيمه إلى أربعة فصول، وتطرق الفصل الأول إلى ماهية الحدود، وتناول المبحث الأول موضوع الحدود بين الدول عبر العصور، وتناول المبحث الثاني موضوع العلاقات بين الدول في الماضي، وتناول المبحث الثالث موضوع أركان الدولة. وفي الفصل الثاني عرضت إشكالية الحدود بين العراق وإيران، وفي المبحث الأول تناولنا الحدود قبل الإسلام، وفي المبحث الثاني الحدود في عصر الدولة العربية الإسلامية، أما المبحث الثالث فتناولت فيه موضوع الحدود في العصر الحديث، أي من قيام الدولة العثمانية (تأسست في 27 تموز 1299م وسقطت في 29 تشرين الأول 1923م) إلى توقيع اتفاقية الجزائر في 6 آذار عام 1975م ثم نشوب حرب الثماني سنوات بين البلدين (1980 إلى 1988م). والفصل الثالث يتناول اتفاقية الجزائر لعام 1975م بين العراق وإيران وفي مباحث ثلاثة، ويخلص البحث الأول إلى أنها اتفاقية غير متكافئة عقدت في ظرف عراقي صعب سياسيا وأمنيا شابه إكراه، والمبحث الثاني يتناول المكاسب التي أضافتها الاتفاقية إلى إيران على حساب الحقوق العراقية، ويتناول المبحث الثالث مدى التزام إيران بالاتفاقية. أما الفصل الرابع فتناولت فيه اتفاقية عام 1975م من وجهة نظر القانون الدولي ، وفي المبحث الأول عرضت فيه ظروف توقيع الاتفاقية ونهايتها، وفي المبحث الثاني تناولت موقف القانون الدولي من عدم اعتراف الحكم الجديد في إيران بالاتفاقية، أما في المبحث الثالث فقد تم تسليط الضوء على أثر الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م على الاتفاقية. وقد اختتم البحث بتقديم مجموعة من الاستنتاجات والتوصيات التي قد تشكل عونا لمن يتصدى لحل هذه المعضلة التاريخية، والله من وراء القصد.

تعليقات

أحدث أقدم