ضرغام الدباغ
كثيرون هم الذين بحثوا في أعماق الظواهر والأشياء (الفلسفة)، وهناك من يزال يبحث. ممن استثارهم الفضول، أو رغبة في المعرفة والعلم ، بحث عن كنهة الأشياء، رحلة إلى الأعماق ليجدوا " الشيء " الشيء الذي حيرهم ، يتمثل تارة بأن الأمور لا تدور عشوائياً، بل هناك هندسة وعلاقات لها جذرها المادي والفلسفي، بحثوا عن سر الموت وما بعده، عن أكسير يعيد الحياة أو الشباب والقوة، فردوس أبدي، عن سر الخيوط التي تربط الأشياء، بدا لهم نقطة الفاصل المهمة مفقودة، أو الحلقة الرابطة غائبة، لقطة ضائعة في العثور عليها يبدو المشهد كاملاً أمام ناظرهم، شيء ما ربما يدركون كنهه ، ولكنهم لا يستطيعون وصفه ، هو ربما شيء يمكن الشعور به، لا يمكن لمسه، أو وصف أبعاده، ولكن بغير دقة . يشعرون بمعاناته وثقله على الروح ... لم يقتنعوا بالإجابات التي ترسم علامة سؤال لا يختفي أمام بؤبؤ العين، وفي القلب غصة عدم الرضا، عدم القناعة التامة، يمضي يبحث ويبحث عن أصل وجوهر الأشياء، هذه فكرة أرقت كثير من الكتاب المفكرين ... كيف نصل إلى الشيء ....؟ أذكر وأنا صبي بعمر 12 عاماً، زارنا قريب لنا هو أديب معروف، الشاعر هلال ناجي، فكنت في تلك العمر المبكرة قارئ نهم، شأني في ذلك شأن عائلتنا جميعاً ذكوراً وإناثاً، فسألت هلالاً: كيف أصبح كاتباً ..؟ ضحك هلال، وهو أبن خالي الأكبر، وقال : " أقرأ كثيراً، ثم أكتب، ومزق ما كتبت، ثم عد وأقرأ كثيراً، ثم أكتب، ومزق ما كتبت، ثم أقرأ أكثر وأكثر أكتب بعدها، ولكن مزق ما كتبت ". وخلت أن هلالاً يسخر مني ومن سؤالي ويعتبره ساذجاً، ولكنه قال أخيراً بحدية : " يوماً من الأيام لا تدركه، إلا وأنت قد أصبحت كاتباً ". وحقاً صار الأمر على هذا النحو، لا أدري كيف أصبحت كاتباً ....! ولكني أعي تماماً أن أساتذتي الألمان عند دراستي الجامعية في ألمانيا علمونا نظام التعليم، ولمن فهمه بعمق، صار بوسعه أن يكتب ويحلل.
وفي إحدى بحوثي أو مقالاتي ذكرت، أن الباحث يبذل كل جهده في إنجاز عمل ما، ويتطلع إليه ويعتقد أنه أفضل من كتب البحث في هذا المجال، والبض يشتط بدرجة إعجابه بنفسه وبمنجزاته وهنا يحكم هذا على نفسه بأن أغلق بإحكام أبواب ونوافذ التطور على نفسه. وعالم آخر يرى بعد فترة قصيرة أن ما أنجزه ليس مقبولاً له شخصياً، ولكي ينجز عملاً أفضل عليه أن يطور مادته، بالقراءة الكثيرة وإحراز المعلومات وتحليلها والتأمل في نتائجها .. وهنا إذا أطال فترة التأمل وشحذ قواه الفكرية، يتطلع إلى عمق الأشياء، سيكتشف ثغرة .... ثم ثغرة أخرى .... ثم أخرى ... وهكذا فإن عمله يبدو بناظره سيئاً، ما علينا بما يعتقد الآخرون، وربما هناك من يعتقد أنه عمل ممتاز ورائع جداً .... ولكن من أنجزه غير راض عنه ... وسيكون للتنقيب في المصادر والمراجع والمعلومات والصور والأشكال ومعطيات كثيرة وبعد فترة سيجد حقاً أن هناك آفاقاً لم يكن قد بلغها ومستوى أعلى عليه أن يصله إن أراد أن يصبح شيئاً مذكوراً...سيبحث كثيراً، ربما سيجد إشارة في لوحة فنية ، أو في حركة موسيقية، أو في قصيدة .. ربما نقطة ستضيء أمام عينيه وعقله وهو يعود ليلاً لبيته سائراً على قدميه، فيرى ظله على أنوار الشوارع.. ظله الذي ليس بمقدوره أن يصله ويقبض عليه، الرسام سيبحث عن خلطة سحرية تعطيه اللون الذي في خياله وربما في أحلامه ... هو تخيل كوناً مشتعلاً بالألوان، يريد أن يرسم ألوانه، يصيبه الاحباط، فيقذف بالريشة ويلعن الحشرة التي تسللت في غفلة إلى جمجمته وعبثت بها فأضاع رشده .. ولكنه بعد حين يزحف باحثاً عن الريشة ويعيد المحاولة .. عله يجد الشيء الذي يبحث عنه ... قد يجده أو شيئاً قريباً لما يدور في فكره .. الجمهور المتلقي لا يعلم ما يدور في ذهن الفنان قبل الولادة .. فهو يشاهد العمل الفني المنجز فحسب ولا يدرك أبعاد المخاض.. ربما يصل الفنان إلى ما يريد ولكن ليس بصفة تامة، فما تزال هناك أشياء مفقودة ...
قمت مرة بترجمة كتاب صغير (لكن العمل فيه كان متعباً للغاية) يضم ثمانية وأربعون تخطيطا من أعمال أنجزت لاحقاً أو لم تنجز لأعظم فناني عصر النهضة، مايكل أنجلو، وأهمية نشر التخطيطات (السكتشات)، التي في الكثير منها تظهر إرهاصات الفنان قبل أن ينجز فكرته الواضحة في ذهنه، والنضال يدور في أن يضعها على الورق .. في ذهنه عوالم كبيرة بألوان رهيبة وأحداث كبيرة .. الكون من حوله يتحرك وهو يجري خلفها لاهثاً يريد أن يلحق بها .. أن يفهمها، ثم أن لا تخونه قواه العقلية في إدراك مكوناتها وأبعادها، يريد أن يفهمها ثم أن ينجح في وضعها على الورق أو ينحتها على الرخام، أو موسيقار يكتبها في نوتة موسيقية، عازف يريد أن ينجح في تحريك أصابعه على آلته ليخرج صوتاً محبوس في دماغه ... وقد يعجز في محاولته تلك فينهار منهكاً باكياً عجزه ... وقد لا يفهم ذلك أقرب المقربين له ...! ذات مرة سهرنا في بيتي ببرلين المطل على ساحة نيبتون (Nepton Platz) بمكوناتها الفنية الرائعة كان الصديقان الرائعان منير بشير والشاعر البالغ الحساسية كاظم جواد، وكلاهما قدما بفعل تأثير الجلسة وأجواءها والحوارات التي اكتنفتها أعمالاً رائعة، منير عزف تلقائياً (وهو من لا يفعل ذلك عادة) عزفاً هائلاً، هو بنفسه أعترف لي فيما بعد أنه حاول عبثاً أن يتذكر ما فعل، ولكنه توصل في النهاية إلى شيء مقارب... وكاظم جواد قرأ شعراً يحلق بك في أجواء ويغوص بك أعماق سحيقة. محاوله الغوص هذه إلى الأعماق يحاولها كل مبدع أي كان موقع إبداعه، بقلمه وريشته وأزميله وفكره، في ذهنه صورة، فكرة يريد إخراجها بوسيلته، يريد أن يضعها بصورة جميلة، ومفهومة، يريد تعميم فكرته، صورته .. بعض الخطباء يتكلمون أمام الجماهير غير ما يتحدثون به في القاعات المغلقة، رؤية أمواج الجماهير تشعرك أنك أمام بحر عميق لا قعر ولا ضفاف له، هذه الجماهير تمتلك قوة سحرية، ومخاطبتها عمل ينطوي على شعور بالتحرر من الخوف نهائياً أمامك موجة هائلة، عليك أن تكون ربان سفينة ماهر، حاذق ومخلص، وإلا فالجماهير تنزلك أسفل السافلين .... عليك أن تنظر في أعين الناس وماذا تريد، هي تريد غير هذا الذي أمامها ... تريد الجديد ... تريد الأفضل، لذلك في قد لا تعلم بالضبط ماذا تريد، ولكنها تريد الأفضل، وينبغي أن تكون أنت / أو الحركة أو الفكرة التي تتضمن هذا الجديد ... الكون كله يهرول .. عليك أن تهرول معه ... ليبقى أسمك في القائمة أقرأ ماذا يكتب شكسبير في مسرحية هنري الثامن، هو لا يكتب عن تجربة سباحة عابرة بالطبع، بل عن شواطئ محفوفة بالمخاطر خاض فيها دون أن يحسب عواقبها ... البحار التي يقصدها شكسبير ليست تلك التي تعج بأسماك القرش والأنواع المفترسة من الحيوانات المائية، شكسبير يقصد الأرض المليئة بالبشر المفترسين لبعضهم، هي تجربة إنسانية عميقة ربما أعمق من المياه التي خاضها، وأمواج هائلة ليس بمقدور أي ساعد أن يواجهها .
لقد غامرت
وكأنني واحد من الصبية اللاهين على قمم الموج
مثلهم أحاول تطويح كيس منتفخ بالهواء
صيفاً بعد صيف
في بحر المجد
لكن البحر كان عميقاً ... عميقاً جداً
أعمق مما أستطيع اللهو فيه
البحر أعمق مما أستطيع اللهو فيه ..
لاحظ هو لم يكتب تفصيل ما حدث هو يقول أنه خاض مغامرة
قرأت قصيدة للشاعر الأسباني انطونيو متشادو تحملك على التفكير ملياً في كلماتها ... ها أنا أدونها وأدعو القارءات والقراء أن يقرأوها بعمق .. ويتأملوا معانيها
أيها الطارق
أيها الطارق، آثارك هي الطريق (الطارق، بمعنى عابر السبيل)
لاشيء أكثر...
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
يتشكل الطريق لدى المسير
لدى المسير يتشكل الطريق
وحين نلتفت إلى الوراء
نشاهد الدرب الذي أبداً
ليس علينا أن نعود فنطأه
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
بل نقوش في البحر...
ما هذا ....؟ هل هو ديالكتيك الحياة ... أم ماذا ... ليس هناك من طريق ... هل يريد الشاعر (انطونيو متشادو) وهو مناضل ملتزم أن يقول لا توجد نظرية ..! أم ترى يريد القول وهو الأرجح، أن النظرية يجب أن تمضي بشكل متواز مع الممارسة والعمل والكفاح بلا هوادة دون يأس دون خوف أو وجل .. فالطريق يتشكل خلال المسيرة .. أنظر إلى الخلف .. إنك سوف لن تعود أبداً وتطأ تلك الخطوات ...! ليس ثمة من طريق ... ولكن نقوش في البحر يغسلها الزبد وتذوب على رمال الشطآن .....!
لوركا ... الشهيد البريء في الحرب الأهلية
فيدريكو غارسيا لوركا : 1898 – 1936 : ولد في قرية فرينته باكيروس القريبة من غرناطة لأب ثري وأم متعلمة ومن الغريب أن هذا الشاعر لم يستطع النطق حتى الثالثة من عمره ولم يستطع المشي حتى الرابعة . في سن السابعة بدأ الدراسة وتعلم الموسيقى، وفي عام 1923 أكمل دراسة الليسانس في القانون من جامعة غرناطة . رحل إلى العاصمة مدريد وهناك بدأ يلفت الأنظار إليه، وعقدت صلات الصداقة مع أبرز شعراء وفناني أسبانيا كالشاعر العظيم خوان رامون خيمينث الذي حصل على جائزة نوبل فيما بعد، مع الرسام سلفادور دالي، والشاعر اليساري رفائيل البرتي والشاعر أنطونيو متشادو. نشر ديوانه الأول "الأغاني" عام 1927 وحاول تعلم الإنكليزية فلم يفلح، إلا أنه كتب قصائد عظيمة منها، "قصيدة إلى ملك هارلم"، و"ليلية جسر بروكلين" وأقام في جامعة كولومبيا حيث كان يلقي الشعر والأغاني الأسبانية ومحاضرات منها محاضرته المشهورة "الخيال والإلهام والقرار" ، ثم محاضرته "أغاني المهد في الشعر الأسباني". وفي نيويورك كتب العديد من قصائده التي ستؤلف ديوانه الثالث "شاعر في نيويورك" كما كتب هناك الجزء الأعظم من مسرحيته "الإسكافية العجيبة" . ثم رحل إلى كوبا لإلقاء محاضرات في المعهد الثقافي الأسباني، وأمضى هناك شهوراَ سعيدة وكتب فصول من مسرحيته " لما تمضي الخمس سنوات" و "الجمهور " ثم عاد لوركا إلى أسبانيا عام 1933 ثم عرضت مسرحيته "عرس الدم" التي بفضلها غدا الشاعر الأكبر للمسرح . وفي نهاية عام 1933 سافر إلى الأرجنتين حيث لاقت مسرحياته نجاحاً منقطع النظير. وفي عام 1936 وهي آخر سنوات عمره القصير، فرغ من تأليف مسرحيته "بيت برنارد البا" وأعد مسرحية جديدة هي "تدمير سادوم" . في الرابع عشر من تموز /1936 يعود لوركا من مدريد إلى غرناطة ليحل في دار ذويه، في العشرين منه، يصل التمرد إلى غرناطة يعتقد لوركا بادئ الأمر، أن استقلاله السياسي سيجنبه وحشية الصراع . يسيطر الفاشست على المدينة و يبدأون حملات التصفية ليس ضد خصومهم السياسيين فحسب، بل وكل من يشتبه بتعاطفه مع الجمهورية . لوركا كان يعتقد أن ملكية أسبانيا غير خاضعة للأبتزاز والتصفية، وكان يظن أن عدم أنغماسه في السياسة ستنجيه، كان يتصور أنه أغنية أسبانية لا تصادر .. كان لوركا بريئاً... بريئاً كطفل ..! في شهر أب وصلت الفاشية إلى بيتهن إلى بيت ذويه، أدرك لوركا خطورة الموقف، ولكن بعد فوات الأوان، كان قد غدا حبيس غرناطة .. يذهب إلى بيت صديق له ينتمي إلى حزب الكتائب .. وفي اليوم التالي 18 / آب / 1936 يأتي فاشيون، ويأخذونه إلى بستان ويطلقون عليه النار، هكذا أعدم شاعر أسبانيا العظيم . وكان لمصرعه دوي في العالم . الفاشيون والدكتاتوريون يكرهون الأذكياء والعباقرة، فهم يشكلون أرقاً وأزمة نفسية لا حل لها فقد قال برنارد شو مرة :" لا يعرف الأذكياء أي ذعر يوقعونه في صفوف الأغبياء".. وكان لوركا قد تنبأ بموته بل وإعدامه ، وقد وضعنا أحدى قصائده التي يتنبأ فيها بإعدامه في صدر الفصل الثاني، وهنا نقدم قصيدة أخرى من روائعه : ـ
عندما أموت مع قيثارتي أدفنوني
عندما أموت
أدفنوني مع قيثارتي
تحت الرمال عندما أموت
بين البرتقال
والنعناع
عندما أموت
أدفنوني إن شئتم
في مهب الريح
عندما أموت
خلوا الشرفة مفتوحة
الطفل يأكل البرتقال
من شرفتي أراه
الفلاح يحصد القمح
من شرفتي أحس به
إن مت
خلوا الشرفة مفتوحة .....
ليس بالضرورة أن يدرك ذلك حتى الشاعر الذي كتبها .. الشاعر تفيض روحه بأشياء لا يعرف كنهها بالضبط، فيخرج قلماً أو سكيناً .. فيكتب ... يكتب ما تجيش به روحه من معاناة وعذابات .... وكذلك يفعل رسام سوريالي ... وكتاب يعيشون معاناة خاصة تستحق القراءة والتفكير لأنها إرهاصات كتاب على درجة عالية من الثقافة والقدرة على التعبير بما يدور في دواخلهم .. الكاتب والفنان الحقيقي يجد خلاصه في عمل فني يجسد التجربة، هي تجربة الإنسان حين يواجه آفاق ... بل قل أفلاك مجهولة، وهو مجرد إنسان، مالم يشحن فكره فسيكون ضعيفاً للغاية بمواجهة الكون وتحدياته .. أما إذا ذهبنا إلى الأساطير، فإننا سنجد الكثير جداً مما يستحق القراءة ومشاهد كم كبير جداً من اللوحات من الرسم والنحت والأعمال الشعرية ... كم هائل ... يا إلهي كم البشرية ثرية ... ولكن البشر لا يتعظون ....ألاف من التجارب وبعضها كبير ومدو .. والنتائج هائلة .. لكن من يتعظ قليل، أو نادر ... رفوف المكتبات مليئة بالكتب النفيسة، ولكن القليل من الناس يقرأون .. يا للأسف ..اقرأ ......اقرأ ..... فكر ......
الصورة : الشاعر غارسيا لوركا


إرسال تعليق