مقامة العنكبوت :

مشاهدات

صباح الزهيري


وصف القرآن العنكبوت بآية واحدة : (( وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)) , كما ان هناك سورة تتحدث من أولها لآخرها عن الفتن سميت بالعنكبوت , مع ان الناس كانوا يعلمون مدى الوهن في البيت الحسي للعنكبوت لكنهم لم يدركو الوهن المعنوي الا في هذا العصر, وبالتالي جاءت الآية : لو كانو يعلمون , وقد يتبادر للذهن ما علاقة الفتن بالعنكبوت ؟ الجواب : إنّ تداخل الفتن يشبه خيوط العنكبوت , فالفتن متشابكة ومتداخلة فلا يستطيع المرء أن يميز بينها , وهي كثيرة ومعقدة , ولكنها هشة وضعيفة , ومن هنا جاء الدعاء : (( اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن)) .


العنكبوت حيوان صغير وذكره يدعي عنكب أما أنثاه فهي العنكبوت , وهي التي تبني البيت وتصل عدد الخيوط إلى 400 ألف خيط وطول الخيط الواحد 20 سم , وللعنكبوت ثمانية أرجل وأربعة أزواج من العيون , وتقوم أُنثى العنكبوت بقتل الذكر بعد التلقيح , وتلقيه خارج البيت , وبعد أن يكبر الاولاد يقومون بقتل اﻷم وإلقائها خارج المنزل , انه بيت عجيب من أسوأ البيوت على اﻹطلاق ,  وتبدو حشرة العنكبوت وديعة رغم أن لديها استعداداً للتخلي عن قيمها بافتراس زميلاتها والمقربين منها , وتحب العناكب الزوايا المظلمة لتنسج خيوطها الحريرية التي تبين أنها أقوى بخمسة أضعاف من الفولاذ , سيد المعادن الصلبة , وتَخرُج العناكب في أوقات غير متوقعة , مثلما يخرج اللئيم في مواقف محرجة لمن كان له فضل عليه , وقد شاهد العلماء العناكب وهي تقتات على حشرات مدّت لها يد العون , وتسعد العناكب في انتشار الفوضى  وهو ما يدفعها لبعثرة شبكاتها عشوائياً ليصفو لها الجو , عندما يمس شباكها أحد تتصدى له لتحمي مرتع الفساد . لأن هناك خيراً في باطن كل (شر) , فقد وجد العلماء في خيوط العناكب متانة مكّنتهم من صناعة مواد متينة في الطائرات , وبزات رواد الفضاء , وتشييد الجسور وغيرها , مشكلتنا ليست في مَن يخالفنا أو يعادينا بل بعدم مقدرتنا على التعايش مع الآخر مهما كانت عدوانيته , هنا تذكرت عبارة قرأتها  ومن غير المؤكد ان دستوفسكي قالها , ولكنها نسبت له : (( ماذا لو كان العنكبوت الذي قتلته في غرفتك يظن طوال حياته أنك رفيقه في السكن؟))  وتأشر  عندي أنه قال : ((كيف احتملت فكرة أنك وضعت ثغرة مؤلمة في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته , ومضيت هكذا دون أن تكترث لشيء ؟ )) , وكذلك قال : (( أتعرفون ماذا يعني ألاّ يعرف أحدنا إلى أين يذهب ؟ )) , ربما تطرح عبارة الكاتب الروسي حول العنكبوت العديد من الأسئلة الإنسانية , فهو يطرح مشكل قتل كائن بريء كان يتقاسم معه إطار مكاني معين و هو الغرفة , كائن كان يعتقد منذ فترة طويلة أنه رفيقه في السكن , أي رفيقه في الحياة , كائن لطيف سعيد بالإنتماء إلى عالمه  أي إلى نفسه , بمعنى كائن يعيش في حدود  الغبطة  و ذلك بمجرد تواجده معه في  الغرفة وقد وجدت في كتاب الحيوان :


قال الحدّانيّ (( كأنّ قفا هارون إذ قام مدبرا ... قفا عنكبوت سلّ من دبرها غزل ألا ليت هارونا يسافر جائعا ... وليس على هارون خفّ ولا نعل )) , وقال مزرّد بن ضرار : 

ولو أنّ شيخا ذا بنين كأنما ... على رأسه من شامل الشّيب قونس 

ولم يبق من أضراسه غير واحد ... إذا مسّه يدمى مرارا ويضرس

تبيّت فيه العنكبوت بناتها ... نواشئ حتى شبن أو هنّ عنّس

لظلّ إليها رانيا وكأنه ... إذا كشّ ثور من كريص منمّس .


نعيد صياغة مقولة دستوفسكي بما يلي :


(( ماذا لو قتلت شخصا يحبك بالفعل ؟ )) , ماذا لو دمرت حلم شخص كان يهتم لأمرك ؟ ماذا لو مزقت قلب شخص أحبك بصدق ؟ ماذا لو دمرت الأفق الروحي لشخص أحبك كالعنكبوت ؟ شخص يتقاسم معك تفاصيلك كلها , شخص يعتبرك الرفيق الوحيد في الحياة , ماذا لو قتل آخر أمل له ؟ شخص لم يتنكر لك ؟ هناك من كتب وقد صدق : (( نحن اليوم ننتمي إلى عصر ( القتل الناعم ) , ( القتل الهادىء ) , ولذا لنثني على من كتب رسالة الأعتذار التالية : (( أيها الزميل الافتراضي في السكن انا اعتذر منك , حقيقة أشعر بالأسف ان خيبت ضنك وصدمتك , بل وغدرت بك (حسب تفسيرك للأمر) , كل ما هنالك أنني لم أعرف بأنك كنت تعتبرني رفيقاً في السكن , لأنه  بصراحة لم يكن هنالك أي تواصل بيننا تواصل مادي أو عاطفي  , حتى أشعر على الأقل أنك تعتبرني رفيقك في السكن , كذلك صدقا عدم وجود وسيلة للتفاهم  بيننا جعلتني أعتبرك دخيلاً غير مرغوبٍ به , بل وكنت أتساءل مع نفسي هل كنتَ تنتظر الفرصة لتؤذيني انت قبل أن أفعل فعلتي هذه ؟ إن كنت تظن أنني تركتك فترة في غرفتي (او غرفتنا كما تدعي زورا وبهتان ) فليس لأنني كنت أرغب بذلك , ولكنكَ كنت بعيداً عن متناول يدي لأبدأ الهجوم القاتل عليك , ولأنك كنت تختفي فلا أعثر عليك , وهذا كان قد سبب لي القلق حتى اني كنت أضن أنك بين ملابسي , بينما كنت تظن أننا رفاق .



 

تعليقات

أحدث أقدم