مقامة الأنتصار

مشاهدات

صباح الزهيري


قال الجاحظ : (( ولعمري إنّ العيون لتخطئ , وإنّ الحواسّ لتكذب , وما الحكم القاطع إلاّ للعقل )) , وقد قيل من قديم , إن الحقيقة أولى ضحايا الحروب , ونحن نرى بأم أعيننا ان البلاد تحترق , وجودها يحترق , تأريخها يحترق , والمتظاهرون يهتفون للرماد , ولن ينفع غِنى اللغة العربية في اكتشاف مفردات تُحوِّل الهزيمة مكتملة الأركان إلى انتصار مجيد , وهكذا أصبح الهراء يملأ الأرجاء , والغريب انه في زمن الهزائم , وفي صباح ألأندحار نجد معظم القصائد في الانتصار . (( كنتُ عن ليلهم أنوي الرحيل/ ولكنَّ الصباحات مذ أبصرتُ/ عمياءُ )) ,منذ 7 كتوبر 2023 وأنا أُتابعُ (يومياً) عشرات البيانات ومحللين وهم يدلون بوجهات نظرهم عن الحرب الحالية , وأقوم فى كل مرة بعمل تحليل لغوي وثقافي لما يقولونه , والخلاصة أن كلامهم جميعاً يقول أن عقليتهم هى خلطة من : الإسلاموية/العروبة/الكراهية والبعد الكامل عن التفكير العلمي , وفي هذا يقول أبو حيان التوحيدي عن ولوع العرب بالكلام : وُلوعهم بالكلام أشدُّ من وُلُوعهم بأي شيء , وكُلّ ولوعٍ لهم بعد الكلام فإنمّا كان بالكلام , وهو ما ذهب اليه المفكر عبد الله القصيمي حين قال: يحسبون أن كلّ ما قالوه فعلوه . إيران عائدة إلينا من بلاد فارس , حاملة راية فلسطين التي لا نقاش فيها , وإسرائيل تحمل شعارها الأزلي : زرع الموت بحثاً عن الوجود والحياة , وهؤلاء الذين انغمسوا في عالم من صنع خيالهم , ولو تخلّوا عنه فإنهم يتخلّون عن معنى حياتهم التي صُرفت في هذا العالم الافتراضي , تصبح الخرائب والمقاتل والتهجير والسواد والدمار والجوع والخوف , محسوبة في خانة الانتصار, و ﻻ يدري أحد متى يجيء دوره , ليهوى النبوت على رأسه كما جاء في رواية الحرافيش لنجيب محفوظ .

خرجت نظريات كثيرة في القرن الماضي في العلوم والمعرفة , ومازالت تتسابق في قرننا الحالي , فقد وضع الغرب نظريات هامة وأعطوها صفة (نظريات علمية) مثل نظرية التطور التي لانشتريها نحن العرب بفلس , ونظرية التحليل النفسي التي لاتساوي عندنا فرنك , ونظرية الكوانتم في الفيزياء التي أيضاً لاتساوي عندنا ثمن ورقها , أما الإنفجار العظيم فهي لاتضر ولاتنفع , ونستغرب من هؤلاء الناس الذين يضيّعون وقتهم في مسائل كهذه , أما نحن العرب فقد تركزت نظرياتنا على مسائل بشرية ملحّة وتعالج قضايانا وحياتنا اليومية , فغاليبة نظرياتنا انصبت على مقارعة الإستعمار والإمبريالية والصهيونية والصليبين الأوغاد , وتمددت هذه النظريات التي شملت كيفية الحرب الخاطفة على الكيان الصهيوني وطرده ثم رميه في البحر, (( وخداع نفسك أشد وأقسى..من خداع الآخرين لك)) . وقل تبت يدا الكراسي المؤدينة بالعجب , وبعيداً عن تفاصيل الأخبار ودقائق الأنباء , في مجالنا العربي , وصعوداً لكليات الأمور ومعاقد الأفكار وجواهر العناوين , سنجد أننا ما زلنا نناقش نفس الذي ناقشه أسلافنا قبل قرن تقريباً , وفي قوانين الحياة عندما تكون قوة المكابح اقوى من قوة الدفع فأننا سنبقى في الزمان ذاته , وأسفي اننا ما نزال لا نجيد فن الدعاية , واسفي اننا نجيد هضم الثقافة لكننا لا نجيد فن التثقيف , واسفي اننا ما زلنا قافلين على ايديولجيات الخمسينات , ولانزال كما ورد في هذا النص ((وهما يتضاحكان على شرّ البليةِ يقول الأعمى لصاحبهِ الأصمّ , دعنا ننتظر ونرى)) . تكمن خطورة تقديس الكذب أن يصبح الانسان الذى يخفى الحقيقة انسانا لا غبار عليه , طبيعيا تماما متحدثا باسم الفطرة البشرية , ينال كل الترحيب والاستحسان والامتيازات والترويج , لا عيب فيه ولا نقص وهو المناسب تماما للحياة , ويغيب عنا ان اخفاء الحقيقة أو الكذب مثل البحر المالح , كلما شربنا منه , كلما ازددنا عطشا , يقول سيجموند فرويد : (( أعترف بعد الخبرة العميقة والطويلة للنفس البشرية , أننى فشلت فى معرفة كيف يستطيع البشر التعايش مع كل تلك الأكاذيب )) , وأنا أعتقد أن الداء المزمن ليس الكذب , ولكنه يكمن فى تبرير و تمجيد وتقديس الكذب , وتسميته بمسميات تخفيه . إن خطأ الإصرار على خطيئة النصر المزعوم , وإنكار واقع يقر بوقوع هزيمة نكراء , ولكنه ليس انتصارا حتى وفق المنطق الذي يسقط الاعتبارات الإنسانية , وشرط الانتصار هو أن يكون الكسب فيه أثمن من الخسارة المفجعة التي ألمت بالأهلين , فما هو هذا الكسب؟ حِين نَقرَأ نرى الأعينَ حفراً يملؤها الدمعُ في النصوص , وحِين نَكْتبُ , نخرجُ من ثيابنا محترقينَ رماداً لتَدْوينِ عظائم الأساطير في الخَراب و مُشتَقّاتهِ , يا لَها منْ لُغةٍ مُعَقَّدةٍ , كلُّ جُمْلةٍ بقلبٍ وعقلٍ وقبرٍ وتضاريس لسِّباحَةِ التماسِيح , والإعلام السائد في بلاد العُرب أوطاني والذي لا يشبهه إعلام , يصر على قاعدة كل شيء أو لا شيء, فيفوز باللاشيء. الإعلام إظلام وإيهام وإجرام , الإعلام سوح وحوش متعاوية , وغاب إحتدام ما بين الضواري السابغة الشرسة , الصائلة على فرائسها بعدوانية سافرة وقسوة ظافرة , هاهي ستارة الختام تهبط عليك لتقول لك مواسيةً أحلامك : هذا وطن حزين , كان حرف العالم العربي, وحرفته , وبهجته , وجماله , وسحره , وغدَا الآن حزننا الذي نخجل منه .(( دون كيشوت: ألا تظنُ إن المرءَ , متى ما أصبح طيراً سيرتاحُ يا سانشو ؟ سانشو: وكيف يرتاحُ طيرٌ , وكلُّ البنادق مُصوِّبة عليه يا سيدي الدون؟! )) .

تعليقات

أحدث أقدم