مشاهدات
ياسر عبدالعزيز
بين الروح والجسد والقلب والعقل علاقة عجيبة، كتب فيها الفلاسفة المسلمون أبوابًا، والبعض خصّص لها كتبًا، فالروح التي تمنح الإنسان الحياة، هي ليست مادة مادية قابلة للقياس أو الاستشعار، فهي الخَلق الذي نفخ الله له فيه من روحه، وهي مرتبطة به، وجعل لها الجسد لتسكن فيه، وبالروح يرتبط القلب، وهو مركز الإيمان والعاطفة، أما العقل فلا يمكن أن نجعله وحده مناط الإدراك، مع أنه مسؤول عن التفكير والتحليل واتخاذ القرارات، لكنه في ذلك يرتبط بالروح والقلب . الإنسان بين جسد وروح .. يتكاملان، ولا ينفصلان ، ولا يعلو أحدهما على الآخر، وإن حاول البعض تصوير أنّ الروح تسمو على الجسد، إذ تسكن العواطف والمشاعر في الروح، وتحفظها الذاكرة، مع ذلك فإنّ الجسد هو مركب تلك الروح ومخزن ذكرياتها، ففي العقل، وهو جزء من ذاك الجسد، يُحفظ ما هوَت الروح وما بغضت، وفيه يحفظ ما تعلم، وبه يحفظ هويته، ويشكل وعيه، وإدراكه بذاته، وبواسطته ينبع الإبداع والابتكار، وتلهب معها الأحاسيس من غير ذلك المركب الذي يبحر بالروح، حيث أرادت الأقدار، ولن تحفظ تلك المعارف والإدراكات والذكريات بما حملت من معانٍ وأحاسيس في تلك الذاكرة التي يحويها العقل . وبين الروح والجسد سجالات لا يقطعها غير الذكريات التي حملت علاقة الروح بالجسد والعقل. ودليل على تكامل الروح بالجسد واتساقهما، يحمل الإنسان بين جنباته فيما مرّ أو أقام مواقفَ جمعته بأشخاصٍ، وظروفٍ حفرت علامات في كتاب حياته، تشكل هويته، وترسم روحه بل حتى ملامحه، بل يمكن وصف شخص أو تخيله - إن لم تكن رأيته - من ذكرياته، وتحفظها الذاكرة، وتستدعيها على مستويات، فيما أرادت أو احتاجت .
الذاكرة تحمل الوطن، بمعانيه، الوطن الصغير في بيت الأسرة والطفولة وذكرياتها، وتحمل الوجوه التي دخلت حياتك، وإن باعدت بينكم الأقدار جيرانًا أو أصدقاء أو زملاء دراسة في مراحلها المختلفة، تستدعي تلك الوجوه والذكريات والمواقف والكلمات، عندما تحتاج، وأشد ما تحتاج عندما تدفعك الحياة للاغتراب عن هذه الدور والناس، قد يمر بك الحال أن تستذكر الأماكن والشوارع والأشخاص، وتتدارسها كما تدرس العلوم، كي لا تنساهم، قد تستغرب ذلك الشعور، لكن مَن مُنع من العودة، وكتبت عليه المنافي يفهم جيدًا ذلك الشعور، لذا فإن فقدان الذاكرة لهو الموت بعينه من دون فناء . الزحف التكنولوجي أثر كثيرًا في ذاكرة الناس، بل لعل الدراسات أثبتت أن ذاكرة البشر تراجعت في مواجهة التكنولوجيا؛ التي بات اعتماد البشر عليها مؤثرًا على قدراته المعرفية، والقدرة الاستيعابية للذاكرة، فبحسب الأبحاث، فإن الاعتماد على التكنولوجيا من كمبيوتر وهواتف ذكية، وميل البشر المتزايد إلى الاعتماد على مصادر إلكترونية لتخزين المعلومات واسترجاعها، بدلًا من حفظها أدى ذلك إلى تراجع ممارسة الذاكرة، وبالنتيجة ضعف قدراتها، لاسيما فيما يسمى بالذاكرة الرقمية، أو الذاكرة القريبة التي من المفترض أن تستدعي المعلومات بسرعة، وهو ما يعني فقدان الانتباه، فقد أصبح البشر أقل انتباهًا وأكثر تشتتًا، وهو ما يعيق ترميز المعلومات وتوحيدها في الذاكرة طويلة المدى، إذ يوصل إلى حالة تغيير الأولويات، ما يقلل من الاهتمام المستمر والمعالجة العميقة للمعلومات، ويفقد الإنسان مع الوقت مهارة التحليل، ومن ثم يفقد صوابية اتخاذ القرار . يتحدث العلماء عن قدرات، يمكن تطويرها مع الزمن، للذكاء الاصطناعي، الذي بدأ بالانتشار إلى حد بعيد منذ نهاية العام الماضي، ويتطور فعليًا على نحو مرعب في تقارب زمني لافت، فأنظمة الذكاء الاصطناعي يمكنها معالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات بسرعات تفوق بكثير القدرة البشرية، ويمكنها إلى جانب ذلك أن تكون بمثابة أدوات قوية لتخزين المعلومات وتنظيمها واسترجاعها، والوصول السريع إلى البيانات .
لكن هذا الذكاء الاصطناعي بدأت تُجْرَى به عمليات جراحية، مع الحديث عن زرع شرائح في الأدمغة توصل بالجهاز العصبي للمرضى تنظم النبضات العصبية، ومن ثم تضبط حركة مرضى الشلل الرعاش، أو نجحت في بعض الأحيان في إبصار بعض المرضى بالعمى، وهناك تجارب مجنونة لإيجاد الإنسان الخارق الذي يستطيع حل المعادلات وإصلاح الماكينات وأعطال المنازل والسيارات، ويستطيع التعامل مع الأجهزة المعقدة، حتى إنه يستطيع، أن يكتب المقالات، وينسج الشعر، ويؤلف المقطوعات الموسيقية كما يستطيع أن يرسم اللوحات الفنية . بيد أن هذا الإنسان المحمل بشريحة الذكاء الاصطناعي بهذه القدرات الخارقة المأمولة، لا يمكنه أن يحمل في تلك الشريحة تلك المشاعر المحمولة بتلك المعارف والمعلومات، فمهما أتقن من فنون لن يمكنه أن يحمل الأحاسيس والشجن المصاحب للنشاط البشري، ولن يستطيع أن يعبر عن تلك العواطف التي تحس، ولا تؤطر، وإن استطاع أن يؤلف مقطوعة موسيقية أو يرسم لوحة فنية، فإن تلك اللمسات البشرية في هذه الأعمال الفنية ستظل ينقصها الدفقة الشعورية التي منها انطلق الفنان، وإن استطاع أن يتذكر الأحاديث والحوارات التي دارت بين حبيبين، فلن يستطيع أن يحملها بأحاسيس الموقف وروح المكان التي دارت فيه، وإن احتفظ بصور لذكريات، فإنه لن يستطيع أن يضع معها الروح التي سادت عند التقاط تلك الصور.لقد كدت أن أفقد مستقبلي وذكرياتي وأفقد معهما ماضيّ، وروحي وهويتي وكينونتي، فكدت أن أفقد مستقبلي عندما أصبحت على شفا فقد مشاريع كتب وأبحاث قطعت فيها شوطًا لا بأس به، وكذلك الحال مع ماضيّ عندما كدت أن أفقد مقالاتي وأبحاثي ومصادر من الكتب وأبحاث جمعتها على مدار عشرين عامًا. وأوشكت أن أفقد هويتي عندما كدت أن أفقد أوراقي الثبوتي وشهاداتي العلمية ودوراتي التدريبية، وروحي وتاريخي وهي التي تشكلت من كل ما سبق مضافًا إليها اللحظات والذكريات التي صاحبة كل ورقة وصورة من هذه الأوراق أو الصور، كدت أن أفقد كل ذلك بسبب ذاكرة جهاز الحاسوب الذي اعتدت أن أحفظ عليه كل ذلك، وكم كانت تلك أيامًا عصيبة وأنا أبحث عن مهندس متخصص وأدور على أصحاب الخبرات ومن سبق لهم تجربة هذا الموقف المريع ، لكي ينقذ حياتي وماضيّ ومستقبلي بإنقاذ ذاكرة الحاسوب. وكم كانت فرحتي بعودة "أغلب" ما كان محفوظًا على الذاكرة كفرحة من تفلتت منه دابته في الفلاة، لكن الدرس الذي تعلمته هو ألا تضع البيض كله في سلة واحدة، وإن لم تستطع فعليك بالـ (Backup) سواء على حافظة خارجية أو على سحابة إلكترونية، حتى يأذن الله للعلماء بشريحة نحفظ فيها مستنداتنا مربوطة بعواطفنا، ويمكننا استخراجها وقتما نشاء (Hard Copy).
إرسال تعليق