الشرق لله
الغرب لله
ارض الجنوب وارض الشمال
تسلمان في يد الرحمن
في هذه الكلمات البليغة للشاعر الألماني الكبير يوهان فولفجانغ غوته ، بيان واضح أن البشر أينما كانوا، هم عباد لرب واحد وأينما وجد الإنسان ، إنما هو من خلق الله الواحد الأحد رب البشر جميعا، سواء كانوا في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب . وأمام الباحثين في بطون التأريخ ومصادره ، نجد أن القضية الإنسانية ذات جذر واحد على كافة الأصعدة، يتمثل بسعي الإنسان في كل زمان ومكان إلي الخير، والخير هو عالم رحب واسع يقبل ويتحمل خيارات كثيرة بعكس الشر والحقد الذي يؤدي فقط وحتما إلى الدمار والظلم والظلام . وعبر العصور والأزمان، كان طريق التعاون والتعارف بين بني البشر واستطرادا، الصداقة يطول ويتسع لفعاليات كثيرة : تجارية وثقافية وسياسية. والسياسة هي أصلا مشروع لخدمة الخير والتعاون ، هكذا كانت قوافل التجار من بلاد الرافدين (بابل وآشور) ترتاد مناطق وسط أوروبا منذ العصور ما قبل الميلاد ، فقد وجدت آثار تدل على هذه العلاقات في شرق أوروبا (المناطق السلافية) وتقترب تلك الآثار حتى تصل إلى سواحل بحر البلطيق وبحر الشمال، تدل على علاقات تجارية حتى مع البلدان الاسكندنافية . ومن المؤكد أن هذا التعامل اتخذ أبعاد أوسع مع حلول العصور الميلادية وفجر الحضارة الإسلامية ، حيث تعددت الصعد التي نشطت فيها تلك العلاقات، ودون شك, فأن العلاقات التجارية كانت في مقدمة تلك الأنشطة ، إذ كانت القوافل تقصد أواسط أوروبا وشمالها من محاور متعددة . فمن المعلوم أن طريق الحرير كان ينطلق من الصين إلى أواسط آسيا ثم يتخذ طريقه متفرعاً ومتشعباً عبر المناطق الروسية إلى السلافية , ومن آسيا الوسطى عبر بلاد فارس إلى وادي الرافدين , إلى بلاد الشام حيث سواحل البحر المتوسط ، متواصلا إلى بلاد الأناضول ( تركيا حاليا ) إلى البلقان واليونان وأوروبا الوسطى . نعم، كانت التجارة العلامة الأكثر بروزا، ولكن دون إغفال التبادل الثقافي . ونحن نعلم أن هيرودوت الإغريقي جاء إلى مصر ووادي الرافدين ومكث في بابل وكذلك فعل فلاسفة آخرون ، وسوف تتواصل العلاقات الثقافية إذ كان هناك تبادل ثقافي ومعلوماتي مهم وواسع منذ العصور قبل الميلادية وبصفة خاصة عن حركة النجوم وأسس علم الفلك.
ولعل الاتصال الأكثر شهرة ، تمثل في السفارات والرسل وتبادل الهدايا بين الخليفة العباسي هارون الرشيد وشارلمان في القرن الميلادي الثامن . والمهم في هذه السفارات كانت تتمثل في المساعي الدبلوماسية لإقامة محور سياسي له أبعاده المختلفة بين بغداد/ عاصمة الخلافة العربية الإسلامية، وآخن حيث كانت عاصمة كارل الكبير (شارلمان)، وكان ذلك في عام 797 ميلادية، وتلك المساعي كانت تهدف إلى إيقاف الخطر البيزنطي وكذلك مخاطر الدولة العربية في الأندلس على كلتا الإمبراطوريتين اللتان كانتا تمثلان مخاطر مشتركة للطرفين . وهكذا تقدمت المصالح الاستراتيجية , الاقتصادية / السياسية على سواها . وبرغم أن الحروب الصليبية 11ـ 13 من القرون الميلادية، شكلت نقطة سلبية في العلاقات العربية /الإسلامية ـ الأوربية ـ المسيحية، إلا أنها مثلت في الوقت نفسه مناسبة لتبادل الخبرات في حقول كثيرة، ثقافية بالدرجة الأولى، وفي تطوير وسائل الإنتاج أيضا. فقد كانت هناك بالتأكيد حروب ومعارك، ولكن كانت هناك صفحات إنسانية أيضا. فقد تأثر قيصر ألماني بالثقافة العربية حتى أتقن لغتها وأحب العرب (القيصر فريدريك الثاني ـ توفي عام 125) وكان كارها للحرب ضد العرب المسلمين ومحبا للسلام . مثل الشرق الأوسط (بما في ذلك شمال أفريقيا) بؤرة إشعاع وجذب، هكذا كان الأمر عبر التأريخ في الصلات السياسية والثقافية والاقتصادية، الشرق الذي اجتذب منذ عصور التنوير موجات جديدة من القادمين من الغرب، ومثلت ذروة تصاعد الفعاليات الثقافية التي أثارتها وحركتها مؤشرات عصر النهضة ومن ثم عصر التنوير، فجاء الباحثون والاثاريون والجغرافيون والمؤرخون . ثم تأسست فيما أطلق عليها بحركة الاستشراق والمستشرقين الذين جاءوا إلى البلاد العربية ، مصر والعراق بدرجة رئيسية باعتبار أن هذين البلدين يمثلان حجر الأساس في حضارة الشرق بل والحضارة العالمية بأسرها, أي الحضارة التي نشأت في وادي الرافدين ووادي النيل . واكتشافات الباحثين الاثريين الألمان والفرنسيون والإنكليز لم تكن بسيطة . فقد كان لاكتشاف حجر رشيد وفك ألغازه على يد العالم الفرنسي شامبليون، ومنها أمكن قراءة الخط السومري والبابلي ولغات ولهجات أخرى، وبذلك أضيفت مساحات أخرى مهمة للثقافة العالمية، قانونية وعلمية وفنية ما تزال خاضعة حتى الآن للدراسة والمراجعة وما زالت الاكتشافات متواصلة وما زال فك المزيد من الأسرار يضيف باستمرار للثقافة والأدب العالمي معطيات كثيرة . ولكن التطور في وسائل المواصلات سهل تنقلات الجيوش، وللأسف كان هناك من يستغل التطور العلمي من اجل تصنيع السلاح وتسويق بضائع أخرى، واقصد هنا بالضبط : موجة الحملات الاستعمارية التي غزت بلدان الشرق وأسست نظما استعمارية تسيء إلى العلاقات الإنسانية بين الشعوب والحضارات . وبرغم ما تحمله هذه المرحلة من مرارة ، إلا أن التواصل الثقافي استمر وكان رسامون كثر أبرزهم الفرنسي يوجين ديلاكروا والروائي غوستاف فلوبير وآخرون توجهوا إلى الشرق وعكسوا في أعمالهم الكثير من خصائص الحياة هناك ، وموسيقيين أبرزهم فيردي وكتاب أبرزهم البريطانية اجاثا كريستي . ومنهم من تفاعل وجدانيآ مع الشرق منهم الموسيقار الروسي كورساكوف، الذي كتب شهرزاد مستوحياً أجواء وسحر بغداد في القرن الثامن ميلادي، والإيطالي روسيني الذي كتب واحدة من روائعه : حلاق اشبيلية، مستوحيَاَ أجواء الأندلس في ازدهارها، كما شاعت في الغرب قصص وروايات ألف ليلة وليلة ، والبساط الطائر، علاء الدين والمصباح السحري، علي بابا وغيرها . وفي العصور الحديثة يتداول المثقفون الأوروبيون وعلى نطاق واسع للملاحم البابلية والسومرية واشهرها ملحمة كلكامش وغيرها لما تنطوي عليها من صور عميقة ، إنسانية واجتماعية وسياسية وليس نادرا أن نستمع إلى الموسيقى العربية في كل مكان في أوروبا. والإيطاليون الذين كانوا روادا في دراسة الفلسفة وعلى مقربة من الأندلس ، لذلك كان التفاعل قوياَ، حيث قام الفيلسوف العربي ابن رشد بإعادة كتابة كتب أفلاطون وأرسطو، فتأثرت طائفة كبيرة من الفلاسفة الإيطاليين بابن رشد حيث تأسست جامعة بادوفا التي تخصصت بمنهجه العلمي ودراساته وأبحاثه الفلسفية، التي كان لها دورها البارز في تبلورات ثقافية لاحقة وفي تطور الفلسفة في أوروبا.
إن هذا العمل يهدف إلى إبراز الخير والجمال في التعاون واللقاء ...حقَاَ إن العالم قد أصبح صغيرا، وان تبادل الثقافات أصبح أمرا محتماً ... وإن الحياة المشتركة على ظهر كوكب واحد، يعني إمكانية ارتشاف المزيد مما أنجزته وتنجزه حضارات وثقافات عديدة في إطار من الصداقة والود وليس التناقض والكراهية والعدوان . وعلى كل المثقفين والمتحررين داخلياَ وخارجياَ من الضغوط أن ترفع شعار: لقاء الحضارات، لذلك فإن عنوان لقاء الحضارات سيحضى برضى واستحسان الكثيرين، ولكن ربما استياء بعض آخر نأمل أن لا يكون كبيراَ . إنني أريد بذلك التأكيد على أن لقاء الحضارات في تفاعله ينتج الروائع والأعمال الخالدة، بل أن الحضارة الإنسانية بأسرها ما هي إلا نتاج تفاعل حضارات وإسهامات لأمم شعوب كثيرة وأن هذا الصرح الشامخ الذي نراه اليوم ، ما هو إلا نتاج الإنسانية عبر تأريخها الطويل شاركت فيه كل الأمم ، وربما حتى شعب الاسكيمو، وطالما ليست بأيدينا أدوات قياس دقيقة وحاسمة، فأنه قد يتعذر قياس مشاركة أي طرف. لذلك نحن مضطرون للقول: أن أي مساهمة من أي طرف في هذا الصرح الشامخ تؤشر وتسجل أصحابها في قائمة الشرف . نعم، إن التعاون يخلق المحبة ويوطد العلاقات ويعمقها بل ويجذرها، فيما لا يخلف التعصب والتطرف سوى الخراب والدمار ولا ينتج سوى الكراهية . ونريد في هذه المساهمة المتواضعة الإشارة إلي عمل خلاق ، إبداعي ساهم فيه : أولا- ملك عراقي شجاع ، عالي النفس ، ورسام فرنسي منح في لوحته القوة حيث يجب أن تكون ، والكبرياء والفخر حيثما كان ذلك ضرورياَ . والنعومة والجمال الذي تقدمه لنا الحياة بسخاء لا يفسده سوى الوحشية والعنف والاغتصاب .
وثانيا- شاعر بريطاني، جعل بطل هذه الدراما (الملك الآشوري ـ البابلي, العراقي) يتحدث ويوجه لنا وللتأريخ خطابه الأخير . أنني أتسائل هنا، كيف كان لنا أن نحتفظ بالأبعاد الإنسانية والتأريخ بمعناه الفني الرفيع ، للملك الآشوري دون ريشة الرسام الفرنسي ديلاكروا، ودون قصيدة الشاعر البريطاني اللورد بايرن . أليس في ذلك دليل ساطع على جمال وروعة لقاء الحضارات وليس صراعها وفي تراكمها تقدم للبشرية .. ؟ المتشائمين ومطلقي الشعارات السوداء يريدون منا أن نشعل نيران الكراهية والحقد . ومن اجل ذلك ترى كم لوحة رائعة علينا أن نحرق، منها رائعة ديلاكروا وأيضا اللوحة الجميلة المعبرة ليوليوس كيكرت، هارون الرشيد يستقبل في بلاطه ببغداد رسل كارل الكبير (شارلمان). يريدون أن يقلع العالم عن سماع حلاق اشبيلية رائعة روسيني، وأن نلعن كورساكوف الذي أبدع شهرزاد ، وان نوجه الشتائم لغوته لأنه كتب الديوان الشرقي . وعلى أطفالنا أن ينسوا مغامرات سندباد وعلي بابا والبساط الطائر، وكم هائل لا يعد ولا يحصى من المنجزات العلمية في : الطب والصيدلة والكيمياء والفيزياء والفلك، ومقابل ماذا ؟.... ترى هل لبئر الحقد والكراهية من قرار ونهاية .؟ أنني أريد أن أقول لمواطني الشرق أولاَ ثم لمواطني الغرب، ما قاله الشاعر الألماني العظيم : الشرق لله والغرب لله . أننا جميعاَ أخوة في الإنسانية، نعيش على ظهر كوكب واحد، وما أصغر هذا الكوكب . دعوا نهر المحبة والتعاون يجري، علينا ألا نقيم العوائق في طريقه ، بل لنساهم جميعا أن نكون قطرة خير ومحبة في هذا النهر . إن المهمة تبدو صعبة ولكنها ليست مستحيلة وبإسهام الجميع ستصبح سهلة ويسيرة واني آمل أن تكون هذه المساهمة قطرة في هذا التيار الرائع ، تيار الحضارة الإنسانية العالمية ، دون تعصب أو تطرف، بل بالحب والعمل المشترك .
يروي لنا التأريخ :
أن بلاد الرافدين لم تستعد الاستقرار والهدوء بعد سقوط الدولة البابلية ، إلا بعد 500عامآ من النزاعات والحروب ألمحلية وأنظمة الحكم الصغيرة، وذلك عندما تمكن الآشوريون الذين كانوا قد أقاموا دولتهم في شمال العراق واتخذوا من نينوى عاصمة لهم ثم تمكنوا من بسط سيطرتهم وسلطانهم على بلاد ما بين النهرين بأسره، بما في ذلك ألعاصمة القديمة بابل . ونجحوا بإقامة إمبراطورية عملاقة . والآشوريون لم يكونوا غرباء عن بلاد الرافدين . فقد كانوا متواجدين في أعالي نهر دجلة منذ آلاف السنين، ثم تمكنوا من تأسيس إمبراطورية قوية وواسعة ، تواصل على استلام عرشها 116ملكأ، وبذلك فأنها كانت الأكثر استقراراَ من سابقاتها من الإمبراطوريات والدول، بما في ذلك دولة بابل العظيمة التي لم يتوارث الملك فيها إلا 36 ملكاَ . في الدولة الآشورية (2025/ 612 ق.م) ازدهر الأدب والفن، وتطورت المنجزات وتجاوزت عما كانت عليه في العهود السابقة ، وكان ذلك مترافقاَ مع الاستقرار السياسي واتساع نفوذهم الذي بلغ سواحل الخليج العربي جنوباَ ، ودولة عيلام شرقا, وحتى جبال ارمينيا شمالاَ، والى البحر المتوسط غربا (بحر آمور العظيم) بما في ذلك قبرص ومصر وشبه الجزيرة العربية . إمبراطورية وقوة عظمى . وقد اكتسب الملوك الآشوريون المجد ، ومنهم على سبيل المثال الملكة شامورامات وهو ما يعني (الاسم الجميل) وتعرف أيضاَ باسم سميراميس , وقد نالت المجد بفضل سياستها الحكيمة ودولتها ذات الاجهزة الإدارية المحكمة ، وبميلها إلي الفن المعماري . ومنهم أيضاَ الملك أسرجون الذي كان يحمل لقب (الجندي الشجاع) بسبب قيادته الناجحة للجيوش، وكذلك الملك سنحاريب الذي اشتهر بميله إلى الأعمار وقد أسس قناة للري بإسمه . ولكن الحكام الآشوريون كانوا مأخوذين بسحر وروعة الفنون والثقافة في بابل , وفخورين بأن تضم دولتهم هذه المدينة التأريخية العظيمة السابقة لهم في الحكم والمجد. ولكن البابليين لم يكن بوسعهم التصور والتحمل ألا تكون بابل مدينة الثقافة العظيمة عاصمة للإمبراطورية ، على الرغم من أن الآشوريون فعلوا كل شيء لأن تتحد عاصمتهم الجديدة مع العاصمة القديمة في لغة و آله، مشتركة . كما حرص ملوك الآشوريون على الزواج من سيدات بابليات من اجل المزيد من توثيق العرى . وكان الملوك الآشوريين قد شيدوا عاصمة جديدة حملت اسم دورشاروكين ، ويطلق عليها أيضا اسم (خرصباد) لا تقل روعة وعظمة عن بابل . إلا أن وفاة الملك اسرحدون كانت قد جلبت بداية النهاية لوحدة الدولة وكيانها، إذ اندلعت الصراعات بين الإخوة حول مناطق الإمبراطورية ، ومن جهة أخرى كان اتساع رقعة الإمبراطورية عاملا مساعدا لهذا التمزق، فعادت الدول الصغيرة إلى البروز في بلاد ما بين النهرين، وكذلك الحروب المحلية وكان ذلك يدور حوالي 660 ق. م . كان ساردانبال آخر ملك آشوري في بابل وقد تآمر ضده قائد جيشة الميدي ، سعياَ إلى انتزاع العرش . وحدث ذلك في وقت من السنة كانت فيه مياه نهر الفرات قد فاضت حتى بلغت إرجاء قصره فساهمت مع المتآمرين في تعجيل سقوطه . وعندما أدرك الملك ساردانبال عدم جدوى القتال و المقاومة وإراقة الدماء، قرر الانتحار مع زوجاته وحاشيته. وقبل ذلك قتل خيوله الاصيلة وكلاب الصيد النادرة، ثم سكب العطور والمشروبات الكحولية على عرشه وأضرم النار في نفائسه وأعز ما يملك، وجلس بكل كبرياء في شرفة قصره المطل على نهر الفرات بحدائقه الغناء، منتظراَ أن يتصاعد اللهب ليجلب الموت الذي ارتضاه . ترى هل كان ساردانبال رجلاً تحجرت فيه عواطفه ...؟.. أم ترى انه اختار نهايته على هذه الصورة كإنسان أختار نهاية شاعرية رومانسية ، وليس كملك يفكر حتى أخر لحظة بالسلطة و السلطان ؟ هذه الرؤى حركت خيال الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798–1863) فحولها إلي لوحة شهيرة تحمل اسم (موت ملك ) التي يصفها بعض النقاد بأنها من أجمل أعمال ديلاكروا مع رائعة أخرى له هي (الحرية تقود الشعب) . وهذه اللوحة الرائعة والتي هي بحجم 395x495 رسمت عام 1827 بالزيت على قماش الكتان ، هي اليوم من روائع متحف اللوفر بباريس . وهي تصور الملك الآشوري / البابلي ساردانبال وهو يجلس على عرشه بكل كبرياء يتطلع بشجاعة ممزوجة بالعطف إلي قتل نسائه وخيوله . انه لمنظر يصور الجمال والنعومة والوحشية في آن واحد . ساردانبال الإنسان كان قد قرر أن لا يسقط هذا الجمال ضحية للعدوان والوحشية ، وكذا نفائسه غنيمة بيد المعتدي، ساردانبال وهو الفارس الشجاع ، المحب للسلام والمبغض للحروب، ليس بسبب التخاذل أو الخوف، ولكنها الشجاعة النبيلة أملت الموت حرقاَ محتضناَ اللهب . على هذا النحو أراد ديلاكروا أن يعرض اللحظات الأخيرة من حياة الملك ساردانبال......الموت محترقاً مع النفائس والجمال . فقد سأل صحفي مرة الكاتب المسرحي الشهير جان كوكتو: ماذا تفعل إذا شاهدت دارتك الجميلة بكل ما تضم من كتب رائعة ولوحات أصيلة أهداها لك أصدقاؤك الفنانون، وكذلك تحفك الثمينة، وقد شبت النيران في كل ذلك ؟ فأجاب كوكتو على الفور: إذن احتضن ذلك اللهب الرائع بين ذراعي . أما الشاعر البريطاني بايرن (اللورد جورج بايرن 1788-1927) وهو مناضل قضى من اجل الحرية في اليونان وهو لما يزل في شبابه, فأنه اطلع على هذه الدراما ثم شاهد اللوحة الرائعة لديلاكروا، وكتب واحدة من قصائده الرائعة :
اللورد بايرن يتخيل خطاب ساردنبال وكلماته الأخيرة
كم أحببت وكم عشقت ....
كم مارست الخيال في حياتي .
لم أدع لحظة واحدة من الحب تفلت من يدي
ولكنه الموت....
أنه ليس غريب عني
إنه أسهل مما نتخيل ونتصور ...
حقا ...أنني لم أدع قطرة دم واحدة تهدر عبثا
ما يملأ منه البحار ...
كسيد، لم افعل ذلك
أن يطبع اسمي مقرون بالموت في كل مكان
كان بوسعي آن افعل كل ضروب الرعب
التي تخلد كذكريات للنصر
ولكني لم افعل ذلك ...
ولست نادم على ذلك ...
فحياتي هي الحب
أكثر نقاء وصفاء
من مياه الأنهار
ولكن عندما يكون اهراق الدماء ضرورياَ
لذلك ....
فأنا فخور بأني لم أضحي بقطرة دم من أجلي ...
من شرايين ابناء آشور
وإذا شاءوا بعد ذلك أن يكرهوني ...
فذلك
لإنني لا احمل في قلبي الكراهية
وإذا ثار بوجهي عصاة، فلإنني لست بطاغية
كم أنتم رجال سيئون..
لا ترتضون يدا تحمل الصولجان
بل يدا تضرب بالسيف
...
المصادر :
1. د. عكاشة, ثروت : الفن العراقي القديم بيروت 1974
2. كونومتل شتات : يوجين ديلاكروا برلين 1974
3. مجموعة مؤلفين : تأريخ العالم ج .1 لايبزغ 1981
إرسال تعليق