الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة /1

مشاهدات

 


نزار السامرائي


يمكن أن يكون اختيار مصطلح "حضارة" بين ما شهده الشرق في عصور ما قبل الميلاد وما أعقب ذلك بعدة قرون، و"التقدم" الذي يعيشه الغرب منذ بداية عصر النهضة وحتى الآن، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، غير جائز، لأنها مقارنة بين شيئين مختلفين تماماً، ولكن لضرورات آنية لم أجد بداً من استخدام هذا المصطلح، الذي يشير إلى تراكم كمي ونوعي عبر حقب طويلة، وتوارثته الأجيال المتعاقبة، وتم الاصطلاح عليه دوليا باسم الحضارة، وهو ما ينطبق على ما يشهده العالم الغربي من قفزات تكنولوجية تحقق في كل سنة، ما يساوي حاصل جمع نوعي لما تحقق قبله في عقد من الزمان . ربما هو ليس حكما قاطعاً في كل الأحوال، ولكن بشكل عام يلاحظ دارسو التاريخ والمهتمون ببعض صفحاته، أن معظم الأمم التي أنتجت حضارات عظيمة قديمة، ظلت تعيش على أمجاد الماضي، وليست قادرة على تخطيه، إما لنزعة دينية متزمتة غير قادرة على الانفتاح على التيارات الفكرية الجديدة أو الابتكارات التكنولوجية، ولا تأخذ بأسباب التطور، بل تركن إلى تفسيرات جامدة لا تتلاءم مع الإنجازات الفكرية والعلمية الحديثة، وإما لعوامل أخرى تتعلق بسيكولوجية الأفراد والجماعات في مجتمع ما غير القابلة للتكيف مع أي جديد، وتعتبر خزينها القديم من التقاليد والأعراف الاجتماعية شيئاّ مقدسا، وتعتبره رصيداً كافيا تنابز به الأمم الأخرى، فهي تفاخر بحقب تاريخية موغلة في القدم ومن حقها أن ترجع إليها بديلا عن مواكبة عجلة التطور الإنساني اللامع التي تحقق في نصف القرن الأخير كما لم ينجزه العقل الإنساني منذ مئات السنين .

ونستطيع أن نقول بلا تردد أن التجارب السابقة، لا تعود إلى نفس الأصول العرقية للأجيال التي تعاقبت على العيش في إقليم معين، وربما كانت الأعراق التي بنت حضارات الماضي قد انقرضت أو اختلطت دماؤها مع دماء الأجيال اللاحقة نتيجة التزاوج بين الأقوام المختلفة، بل من حقنا أن نقول إن ما أنجز في مراحل التاريخ المتعاقبة، كان حصيلة تلاقح حضاري بين أمم غالبة وأمم مغلوبة عاشت في إقليم واحد، وصار المنتمون إلى هذا الإقليم ينظرون إليه كشاهد على عبقرية بلدانهم، من دون النظر إلى المراحل المتعاقبة للهجرات أو الغزوات التي تعرضت لها بلدانهم . لقد كان للهجرات المتعاقبة والتي شهدها العالم القديم، حالات صعود ونزول، وعلى العموم كانت في حركة مستمرة، تبعا لضرورات البحث عن الثروة والاستقرار المدني، أو نتيجة الغزو بهدف التوسع الإمبراطوري لدى بعض الدول التي ترى في نفسها المقدرة على ضم أقاليم أخرى إلى ممتلكاتها، أو نتيجة الظروف المعاشية التي مرت على هذه المجموعة السكانية أو تلك، نتيجة الحروب والنزاعات للسيطرة على مصادر جديدة للغذاء أو الثروة والمياه والمراعي والأراضي الأكثر خصوبة، ومع ذلك فإن للبقعة التي نشأت فيها الحضارات المتعاقبة بصْمَتها الخاصة، وكان بالإمكان تسجيلها باسم الأرض التي نشأت فوقها، ولربما ومن أجل تثبيت حقائق تاريخية من قبل علماء الآثار في خطوة بحثية، وليس من أجل تمييز حضارة عن الأخرى، لا سيما تلك التي تعاقبت في حدود دولة واحدة ضمن الجغرافيا السياسية في وقتنا الراهن، فعلى سبيل المثال نستطيع أن نميّز حضارات العراق "ميزوبيتاميا" المتعاقبة باسم الأقوام التي تعاقبت على حكم العراق، تارة باسم السومريين وتارة باسم الأكديين وثالثة باسم البابليين ورابعة باسم الآشوريين، وهكذا نلاحظ أن جميع العراقيين في دولتهم الحديثة التي نشأت عام 1920 ينظرون إلى كل الحضارات المتعاقبة التي نشأت فوق بلاد ما بين النهرين، أو في حدود الدولة العباسية، على أنها انجازاتهم وهي تخصهم جميعا، ولكل واحد منهم فيها رصيد من الفخر والاعتزاز .

لكن بعض الدول التي تمتلك إرثا حضاريا عظيما مثل اليابان والصين والهند، فيمكن النظر إلى هذه الدول على أنها الاستثناء البارز عن تلك القاعدة، فصار لزاما علينا أن نشير إلى اليابان بأنها التجربة الأكثر اشعاعا من بين التجارب العالمية بهذا الخصوص، فعلى الرغم من أن لليابان حضارة قديمة ومتصلة الحلقات لقرون طويلة، وظلت تعتز بها وبتقاليدها حتى يومنا الراهن، إلا أن اليابان تمكنت من تجاوز عقدة الحضارة المتنحية لصالح الحضارة المتفوقة (المقصود هنا القوة الأكثر اقتدارا)، ومضت في طريقها لا تلوي على شيء من تمتين علاقاتها مع الولايات المتحدة التي ضربت مدينتين يابانيتين بأول قنبلتين ذريتين عندما كانت الحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتوشك أن تضع أوزارها، وربما ستكون آخر مرة في العالم التي يُستخدم هذا السلاح الفتاك، بعد التعرف على الأهوال التي تركها على الأرض والإنسان ، فالتقطت اليابان فرصة التطور العلمي والتكنولوجي ولم تسمح لنفسها أن تتأخر بحجة أنها كانت تمتلك تاريخاً قديماً متألقاً في إنجازاته، وعليها أن تتمسك به وتُبقي أنظارها شاخصة نحو الماضي، دون التطلع لمستقبل لا يقل ألقاً عن الماضي ولا ينسلخ عنه، ولكنه يطمح إلى اكتساب المهارات اللازمة لنقلها من قرون ما قبل الميلاد إلى القرن العشرين والقرون اللاحقة، إذ سنلاحظ أن اليابانيين ومع كل الرصيد الضخم من الإنجازات التكنولوجية التي حققوها وتفوقوا فيها على شعوب سبقتهم في مجال الاختراعات الحديثة مثل الدول الأوربية، فإن تمسك اليابانيين بتقاليدهم الاجتماعية، لم يتزحزح عن قيمه القديمة بأي قدر من المقادير، وهذا ما عزز من مكانة اليابان دولياً واحترام تجربتها الخاصة، كبلد يحافظ على تقاليده ونجح في التلاقح بين التراث والمعاصرة، وهو ما لم ينجح أي بلد آخر بدرجة النجاح الياباني. كما يمكننا أن نلاحظ أن الصين سرعان ما لحقت باليابان في موكب التطور التكنولوجي بعد أن شنت حروباً ضارية على كل الأديان، وبعد أن حررت نفسها من الصنمية الماركسية اللينية الماوية، التي أحكمت سيطرتها على البلاد من نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي، إلى أن استطاعت زعامة الحزب الشيوعي الصيني التحرر من قيود الفكر المتحجر ثم المزاوجة الحاذقة بين الفكر الاشتراكي والتطبيقات الرأسمالية للاقتصاد الصيني، وهو ما تأكد نجاحه بصورة أدهشت المراقبين، ومع أن اليابان والصين شهدتا حضارة موغلة بالقِدم، إلا نجاحهما الحاسم في بناء نهضتهما الجديدة هو حصيلة لنمط من التفكير الجديد لم يكن مسموحا به لزمن طويل، ولم يحصل إلا بعد نزع سلطة الكهنة البوذيين الأبوية عن الدولة، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة العمل الشاق على إقامة الدولة المدنية، بعد فصل سلطة كهنة المعبد عن إدارة الدولة المدنية. إن عدم السماح لرجال الدين بالتدخل في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية، منح الحكومات المتعاقبة على الحكم في البلدين بعد عصر النهضة الذي شهدته أوربا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي، قدرةً وديناميكيةً على قطع أشواط سريعة في عدة عقود، استطاعتا خلالها توطين التكنولوجيا في أراضيهما في وقت قياسي. وإذا انتقلنا إلى الهند فإننا سنلاحظ بطئاً شديدا في اللحاق بركب اليابان والصين، مع أن الدول الثلاث عاشت تجارب حضارية قديمة عميقة، إلا أن التدرج الذي عاشته البلدان الثلاثة في تحقيق التطور التكنولوجي، يبدو لافتا للنظر، ويمكن أن يؤشر ذلك إلى قدرة كل بلد من البلدان الثلاثة على عزل رجال الدين أو المنظرين العقائديين عن التدخل في تفاصيل الدولة وخياراتها الاقتصادية، لكن من يراقب التجربة الهندية سيلاحظ تفشي طقوس دينية لأتباع الديانة الهندوسية ذات الأغلبية السكانية والممسكة بحكم البلاد تثير الدهشة في معظم دول العالم، لخضوع السلطات لرأي الأغلبية السكانية التي تقود المؤسسة الدينية وترسم قراراتها، على وفق هوى الكتلة البشرية الجاهلة، وبالتالي تحدُ كثيرا من قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات راديكالية تتعلق باللحاق بنظيرتيها اليابان والصين. باختصار شديد نستطيع القول إن هناك تخادماً ثابتا ظل يطبع تاريخ آسيا، بين كهنة المعابد البوذية "بنماذجها المحلية المتعددة" والهندوسية والسيخية، والأباطرة والملوك والسلاطين فيها، بما يحقق منفعة متبادلة بين الطرفين، ففي الوقت الذي يمنح أولئك الكهنة البركة للأباطرة والملوك والسلاطين، ويطلقون لهم الحق في الحكم استناداً إلى تفويض من الآلهة أو الإله المعبود، كان الأباطرة والملوك والسلاطين يوفرون المال والحماية للكهنة ورجال الدين وكل ما يحتاجونه من أسباب القوة على مستوى الشارع، وبالتالي يمكن القول إن الشعب والبسطاء منه خاصة، هم ضحايا التخادم بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية.

تعليقات

أحدث أقدم