التوأمة بين الديمقراطيّة والفساد والعصابات العنقوديّة!

مشاهدات

 

 

جاسم الشمري 


علّمتنا التجارب المريرة أنّ بعض الإحصائيات قد تنتهي قيمتها ولم يعد لها أيّ أثر في الفكر الإنسانيّ ولا حتّى في الضمير . ومن أنصع دلائل الوحشيّة البشريّة هو ضياع قيمة إحصائيات القتل في فلسطين والعراق وسوريا واليمن، وغيرها من البلدان التي عانت من ويلات الحروب والهمجيّة . ومقابل إحصائيات القتل فقدت أرقام الفساد الماليّ في العراق قيمتها بعد العام 2003، بل وصارت مجهولة ومخفيّة ومتضاربة ! وسبق لوزير الماليّة العراقيّ السابق علي علاوي، تأكيده ضياع أكثر من (250) مليار دولار بسبب "الفساد الإداريّ"! وهنالك حديث عن أكثر من (450) مليار دولار قد نهبت من موازنات العراق .. وغيرها العديد من الإحصائيات التي تؤكّد تغوّل شبح الفساد، وخراب الذمم وضياع المال العامّ . وقد تمثّل الفساد الماليّ بصور مباشرة عبر الاستلام السريع للأموال، أو بطرق غير مباشرة عبر التعيينات الوظيفيّة الوهميّة في القطاعات المدنيّة والعسكريّة ، والدخول في الصفقات والمشاريع والمناقصات والمزايدات . وصرنا أمام جيل من السياسيّين يتلاعبون، هُم وحاشيتهم، بملايين الدولارات بينما يعاني ملايين الناس من الفاقة والفقر، وربّما حياتهم مجرّد حياة مستمرّة وفقا لمبدأ : "قُوت لا تموت"! ويمكن كشف بعض أهم أسباب الفساد الماليّ، وهي :

- عدم الاستقرار السياسيّ، وهذه معضلة تستحقّ التوقّف عندها، حيث إنّ الخلل في بناء المنظومة الرقابيّة سيقود حتما إلى فوضى ماليّة وإداريّة ورقابيّة، وبالمحصّلة ضياع القدرة على الإمساك بخيوط العصابات الخطيرة التي تتلاعب بقوت المواطنين.

- التداخل في الصلاحيات وضياع القوة الإداريّة في تنفيذ المشاريع والحفاظ على هيبة المؤسّسات العامّة!

- السطوة السياسيّة، لدرجة أنّ الهدف الأسمى لغالبيّة المسؤولين هو الحصول على المكاسب الشخصيّة عبر المناصب الرسميّة، ولدرجة أنّ التصويت على بعض المناصب قد وصل لأكثر من 100 ألف دولار! ويدخل في هذا الباب سطوة العلاقات بأقرباء المسؤولين، بحيث أنّ بعض المشاريع لا يمكن أن تنجز إلا بموافقة ابن أو زوجة أو أخ المسؤول الفلانيّ، وهذه الموافقة لا تكون إلا بأخذ الحصّة المحدّدة من مجمل الأموال المخصّصة للمشروع . وبهذا صرنا أمام طبقة مترفة ومتنعمة بأموال الفقراء في وقت يقال بأنّ أكثر من 15 مليون مواطن هم تحت خطّ الفقر!

- التلاعب القانونيّ والإداريّ، وقد لاحظنا في السنوات الثلاث الأخيرة حرص غالبيّة الفاسدين والمسؤولين على تبويب سرقاتهم عبر مشاريع متلكئة أو ترتيبات إداريّة وتشغيلية هزيلة، وبالمحصلة، ربّما تمكن غالبيّتهم من تحقيق مآربهم وتحقيق ثروات طائلة وبطرق بعيدة عن الملاحقات القانونيّة والرقابيّة .

- السطوة المسلّحة، وهذه الآفة تنفذ عبر سياسة الترهيب للشركات والمقاولين من العراقيّين والأجانب، حتّى صرنا أمام جماعات لا تسمح لأيّ شركة بالعمل هنا أو هناك إلا بعد استحصال حصتهم من القيمة الإجمالية للمشروع !

- العصابات العنقوديّة، وهذه أخطر أنواع العصابات لأنّها مرتبطة بشخصيات وكيانات سياسيّة وعسكريّة فوق القانون، وأبرز مثال على ذلك هي القضية المعروفة باسم "سرقة القرن"، والتي فُقدت فيها ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار، وقد أشار المتّهم الأكبر "نور زهير" إلى أنّه يريد محاكمة علنية وسيكشف كافّة الأوراق؛ وهذا تهديد لبقيّة أفراد العصابة العنقوديّة، وبالتالي إمّا ستتمّ تصفية "زهير" أو يُبرّأ من التهم الموجّهة إليه ! وفي تطوّر كبير، كشف رئيس هيئة النزاهة القاضي حيدر حنون، الأربعاء الماضي، وجود "تستّر" قانونيّ على "سرقة القرن"، وأنّ "هيئة النزاهة مُستضعفة"!

وأخيرا العلاقات ودورها الخطير في التغاضي عن بعض الفاسدين بسبب مكانتهم وارتباطاتهم ببعض القوى الكبيرة، وبالنتيجة نكون أمام قصور في متابعة تنفيذ المشاريع ومراقبة العقود العامّة والتدقيق الماليّ ومراقبة تطبيق السلوك العامّ للموظفين في دوائر الدولة، وخصوصا الدوائر المرتبطة بصرف الأموال وتنفيذ المشاريع! وقد كشف التقرير السنويّ لهيئة النزاهة العراقيّة للعام 2023 أنّ أكثر الوزارات التي نالت الحظّ الأوفر من الشكاوى والمخالفات هي وزارات الإعمار والإسكان، وتلتها الماليّة والصّحّة والإدارات المحلّيّة للمحافظات والنفط والعدل ! وكان هنالك أكثر من 35 ألف إخباريّة (تبليغ) لهيئة النزاهة بخصوص فساد ماليّ، وأثبت التقرير أنّه ومن مجموع (27170) قضيّة أحيل منها (3969) قضيّة إلى القضاء، بينما أغلق منها (6342) قضيّة . إنّ تنامي الفساد الماليّ والإداريّ هو الضربة القاتلة لأيّ حكومة، ولهذا فإنّ غالبيّة العراقيّين يريدون أن يلمسوا شعارات مكافحة الفساد الماليّ عبر استرجاع الأموال وزجّ السرّاق في السجون دون النظر إلى مكانتهم وعلاقاتهم! ومن هنا ينبغي تشجيع العمل على المطالبات الشعبيّة والإعلاميّة بالشفافية في كشف حجم الفساد والخطوات العمليّة في محاسبة الفاسدين، وإلا فإنّنا سنكون أمام حالة "توأمة" بين الديمقراطيّة والفساد الماليّ ! مَن يريد أن يكافح الفساد يجب أن يضرب بقوّة القانون، وإن عجز عن ذلك يمكن العمل على تدويل قضيّة الفساد عبر "التحالف الدوليّ لمكافحة الفساد في العراق" المتفق عليه سابقا مع العراق، وأيضا يستعين بالدول الصديقة لتصفية المؤسّسات العامّة من سرطان الفساد الماليّ . خلّصوا العراق، وبسرعة ، من سُوْسَة الفساد التي تأكل حاضر العراقيّين ومستقبلهم !


 


تعليقات

أحدث أقدم