مشاهدات
نزار السامرائي
نشط الوسطاء الأمريكيون في تسويق بضاعة للمنطقة العربية، اتفقوا مع الإسرائيليين على أنها مجرد وعود بسلام مستحيل أن يتحقق على الأرض، بمقابل دعم عسكري مفتوح لإسرائيل ومن كل الأسلحة ومن المستودعات الأمريكية، وراحوا يعرضونه على الفلسطينيين كلما أوشك مفاوضو الدوحة والقاهرة على وصول مساعيهم إلى طريق مسدود ، وذلك ليبقوا جذوة أمل غامض مطروح على مائدة الحوار، فيخرج مسؤول أمريكي من هنا أو من هناك، ليقطع الطريق على أي تصريح قد يعبر عن قنوط المفاوض العربي، "غير المتفق مع نفسه على ماذا يريد وما هو المسموح له بإعطائه من وعود وتعهدات"، فيأتي الصوت من البيت الأبيض بعنجهية وبلهجة آمرة، بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بالقول إن مفاوضات الدوحة والقاهرة قد أخفقت في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لأنها جاهزة لتقديم النصائح والمقترحات المعدلة والملزمة للأطراف المتحاربة بحلول بديلة . غير أن الواقع يشير إلى أن تلك التصريحات لا صلة لها لا بفلسطين ولا بالمنطقة العربية كلها، بقدر تعلقها بما يسعى إليه منظمو حملة كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأمريكية، أمام مرشح جمهوري يملك أوراقا أقرب لدغدغة مشاعر الشارع الأمريكي والدولي عن هيبة أمريكا الضائعة والقرن الأمريكي المفقود، بعد أن أكدت ولاية بايدن لمدة أربع سنوات، أنها إدارة مخدرة وغير قادرة على السير من دون عكازات ديمقراطية قديمة، من جانب بيل كلنتون أو أوباما ووزيرة خارجيته عقيلة الرئيس بيل كلنتون، فأرادت حملة المرشحة الديمقراطية التي ظلت شاهدة زور على فقدان بايدن للسيطرة على مداركه والملفات المطروحة أمامه، وضعف قدرته على اتخاذ القرارات الصائبة التي قال عنها ترمب إنها هزت مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي . أوهام السلام التي يُلّوَح بها بايدن ومستشاروه ، لا وجود لها الا في اذهان مخططي حملة هاريس للانتخابات الرئاسية المقبلة، عساهم أن يتمكنوا من منح إدارة بايدن نصرا يعوضها عن سلسلة الإخفاقات التي حفل بها سجله خلال السنوات الأربع، ومع أن واشنطن تمارس أكبر خديعة لحماس وغيرها من أطراف المحور الإيراني، وتخديرهم بوعود غامضة عن ضغوط تمارسها على إسرائيل، إلا أنها لم تُرد أن تحقق خطوة واحدة إلى الأمام في ملف الحرب على غزة، قدر حرصها على عدم توسيع نطاق الحرب، واشنطن تعرف أنها ضالعة في حملة تضليل متعددة الاطراف، وبعضها يدعي الانتماء لمحور الممانعة ولو على الصعيد الإعلامي فقط، وذلك لمنح اسرائيل ذريعة لتدمير ما بقي من غزة "إن كان قد بقي شيء لم يصله الدمار"، تحت لافتة اطلاق سراح الرهائن .
هناك اطراف عربية تلعب ادوارا مريبة في تصوير مسار المعارك على نحو مبالغ فيه، سواء بالحديث عن قوة المقاومة أو عن ضعف إسرائيل، وهي شريك امريكا في خطتها، منها من يسعى لضرب أي نشاط فلسطيني مسلح سواء في غزة أو في غيرها، باعتبار أنه أصبح من الماضي بعد أن وافقت آخر المنظمات الفلسطينية المسلحة على حل الدولتين، الذي يعني بداهة الاعتراف بوجود إسرائيل . من وراء ستار كثيف من الغبار والدخان، تواصل إيران ضغوطها على بعض الأطراف على هيئة نصائح سخية، بعدم القبول بوقف إطلاق النار، لأنها باختصار شديد تتصرف بلا تضحية ولا يعنيها شلال الدم المتدفق في غزة ويوشك أن ينتقل إلى الضفة الغربية، ذلك أن سبق لها أن ارتكبت أبشع جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين في العراق وفي مخيم اليرموك في دمشق وفي جنوبي لبنان، فبالتالي ستنظر إلى ما تقوم به إسرائيل على أنه جهد مساعد لها كي تتخلص من أي فصيل مسلح لا يؤمن عقائديا بولاية الفقيه، وليس مجرد تعبير سياسي عن الامتنان المؤقت لرفعها شعارات سياسية عن تحرير فلسطين والأقصى، دون أن تلوح بالأفق بارقة أمل عن عمل جدي مباشر لإيران في ما واجه غزة من دمار وكوارث منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن، بفعل ما تركته الماكنة العسكرية الإسرائيلية من قتل وتدمير. إن ما يعني إيران ويحتل المرتبة الأولى في اهتماماتها، ليس حماس ولا الجهاد الإسلامي، وإن كانت طهران قد حاولت استخدامهما كزورق للرسو العقائدي في شواطئ فلسطين، ولكنها عندما أيقنت أن ذلك مجرد حلم صيف لا أكثر، انكفأت إلى مواقعها العقائدية الحصينة بعدم منح أي طرف من خارج منظومتها الأيدولوجية أي دعم مفتوح أو غير مشروط ، ما يهم إيران حصرا حزب الله اللبناني فقط ، واتخذت من فلسطين جسرا للكسب السياسي على المستويين العربي والإسلامي لما لفلسطين من مكانة في الوجدان العربي من تأثير غلاب وعابر للمشاعر القطرية ، فأجاد الإيرانيون توظيف هذا الملف واستطاعوا تخدير الكثيرين وأوهموهم بأن إيران صادقة في مساعيها بشأن تحرير فلسطين . للأسف انساقت بعض المنظمات الفلسطينية المسلحة وراء السراب الإيراني، ونسوا أو تناسوا ما ارتكبه الحرس الثوري الإيراني من جرائم ضد الفلسطينيين، بل اندفعوا إلى مدى أبعد عندما أعلن قادة فلسطينيون في لحظة حماسة غير مدروسة وظنوا أنهم قادرون على خديعة إيران من خلالها واستدراجها إلى تقديم مزيد الدعم، فوصفوا قاسم سليماني بأنه شهيد الأقصى، إيران تمثلت الدور وتقمصت دور الموجه لبعض تلك المنظمات عن بعد، فراحت تغدق عليها بالنصح لمزيد من التشدد في الموقف المعلن الذي لم يعد يمتلك من مقوماته إلا القليل . وخلال مفاوضات الدوحة، استماتت طهران لتكون طرفا فيها، لكن مساعيها باءت بالفشل حتى الآن، على الرغم من أنها وعدت بأنها إن حضرت سيكون حضورها إيجابيا في تهدئة جبهات الحرب المشتعلة أو المرشحة للاشتعال، ولهذا مارست دور الوصاية على حماس لرفع سقف شروطها لوقف إطلاق النار، على الرغم من أن حماس ليست هي الخاسر الأكبر في غزة، بل الشعب الفلسطيني هو الخاسر الأكبر، ربما ستخسر حماس دورها كليا أو جزئيا، وربما تسعى للحصول على ضمانات بعدم ملاحقة بعض زعمائها، ولكن هل تساوي حياة مائة فرد من قيادات حماس بمستوياتهم المختلفة، أن يُضحى من أجلهم بأكثر من أربعين ألف شهيد وأكثر من عشرة آلاف مفقود، وأكثر من تسعين ألف جريح ؟.
يظن بعض مراقبي أوضاع المنطقة العربية، أن يظهر أحد قادة حماس ذات يوم ليكرر ما سبق لحسن نصر الله أن قاله بعد حرب 2006، بأنه لو كان يعلم بأن الثمن سيكون بذلك الحجم من الدمار الذي لحق بلبنان، لما أقدم على اختطاف عدد من الجنود الإسرائيليين. إيران لا تتحمل تبعات النصائح التي تعطيها لوكلائها في المنطقة، فهي تصدر لهم الأوامر ليلا، وتتبرأ منها نهارا، وبالتالي يتحمل الطرف الذي يُصدّق بوعود إيران بأنها ستُحرك كل الجبهات في وقت واحد، لتخفيف الضغط عن الجبهات الأخرى ومنع إسرائيل من الاستفراد بجبهة واحدة، ولكن هذا لم يتحقق منه شيء، فقد دفعت غزة دون غيرها من جبهات الحرب أكبر الاثمان من دون وضوح الهدف من خوض المعركة، التي بدأت أهدافها بالتراجع حتى وصلت إلى مناقشة السيطرة على المعابر، ولولا الدور المصري، لما تمكنت حماس من تعطيل النص على بقاء القوات الإسرائيلية في معبر فيلادلفيا، وعلى الرغم من كل ذلك التراجع في الأهداف المعلنة للمعركة، استمرت إيران بالتحريض على التشدد لأن طهران تعرف جيدا أنها لا تتحمل شيئا من تبعات هذا التشدد، بل هي الفائزة بالجائزة الكبرى لأنها حولت أطرافا تملك من الشجاعة أكثر بكثير من الحكمة، وأكثر مما يتاح لإيران، إلى خط دفاعي أول عن الأمن القومي الإيراني ، كما عبر عن هذا المعنى خالد مشعل المعزول عن رئاسة المكتب السياسي لحماس والذي ما زال يقيم في الدوحة . لقد كسرت منظمة حماس ما حملته من شعارات سابقة عن (التحرير من النهر إلى البحر)، فصارت تتحدث عن تعديل شروط وقف النار، وصار الحديث عن حل الدولتين أمرا معتادا في أدبها السياسي . لقد وجدت اسرائيل في الحرب الحالية ضالتها والتي بقيت تنتظرها منذ زمن طويل، لإيجاد ضحية تمارس معها حرب الإبادة الجماعية وتجعل منها مثلا يُساق في مجال ضرب الأمثال كما حصل لبغداد بعد الغزو المغولي أو كما فعلت الولايات المتحدة ، عندما ضربت هيروشيما وناكازاكي بالقنبلتين الذريتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، ويبدو أو درس غزة سيبقى ماثلا في الأذهان عن وحشية العدو وصمود شعب واجه العدوان ببسالة منقطعة النظير، ولكن الممسكين بالقرار السياسي تجردوا من أي شعور بحجم المأساة وحرصوا على حماية أنفسهم فقط ، وربما سيدرس كل من يفكر بالتعرض للغطرسة الإسرائيلية مستقبلا تجربة ما حصل في غزة بعناية . تتحرك الولايات المتحدة بوضوح لإدامة حرب مستعرة تحت لافتة وجود فرصة للسلام ، وهي تعرف جيدا أن الشعب الفلسطيني قد تعرض لحرب إبادة غير مسبوقة في تأريخ الحروب القديمة والجديدة، والا هل نشبت حرب فوق رقعة محدودة المساحة مثل غزة، ولحق بها هذا القدر من الدمار خلال عشرة شهور فقط وتحمّل المدنيون ومن نساء وأطفال وشيوخ وزرها الأعظم، في معركة بين أعتى قوة عسكرية مدعومة دوليا لا سيما من الولايات المتحدة، وتحت أنظار الرأي العام الدولي وسمعه، وحتى الأمم المتحدة التي كان لها في الماضي أدوار لافتة، باتت اليوم مشلولة الإرادة لأنها تعي أن قراراتها ستضرب عرض الجدار. إن الحديث عن القضاء على حماس، صار جسرا تعبر عليه القوات الإسرائيلية نحو تدمير غزة وابادة سكانها، وللأسف الشديد لا يفكر البعض الا بأنفسهم وهم يشاهدون الدمار الذي أتى على كل شيء في غزة، وأدى إلى استشهاد أكثر من اربعين الفا، مع عشرة آلاف مفقود وحوالي 100 الف جريح، إن حماس لا تشكل الا نسبة ضئيلة من الشعب الفلسطيني وربما فقدت كثيرا من رصيدها السياسي في غزة خاصة، ولكن اسمها هو البضاعة المتاحة لإسرائيل كي تواصل حرب الابادة للشعب الفلسطيني، والذي بدأت تتوسع به لتشمل الضفة الغربية في حرب ابادة شاملة . المراقبون يجرون مقارنة سريعة بين ما حصل في معارك إسرائيل وحزب الله، فيرون أن المرونة الإيرانية لعبت دورها في الجبهة اللبنانية أو الرد الإيراني المزعوم على إسرائيل على اغتيال هنية في طهران، فيتوصلون إلى أن طهران تريد أن تقاتل حتى آخر فلسطيني (عسكري أو مدني)، وتسعى للإبقاء على رصيدها المؤكد (حزب الله اللبناني)، فهو مضمون الولاء، مقابل ولاء مرتبط (بمصلحة آنية) من قبل الفلسطينيين. ومن حق المراقب العربي أن يسأل، ترى كم من الضحايا يجب أن يسقطوا حتى يصار إلى وقف إطلاق نار، لا تريده إسرائيل أبدا وإن كانت تتعكز على تشدد حماس وتتهمها بالتسبب في عدم الوصول إليه .
إرسال تعليق