د. محمود خالد المسافر
لعلني احاول وانا اتناول موضوع غياب الفنان القدير حمودي الحارثي ووفاته رحمه الله قبل أيام، أن أجيب عن تساؤل يمر على بال الكثيرين جدا من أبناء جيلي والجيل اللاحق والذي يليه، وهو لماذا يتأثر المجتمع كثيرا بوفاة أحد أعلام الثقافة والأدب والعلوم والجيش والقضاء والشرطة والفنون لمرحلة ما قبل الاحتلال، فينشغل الناس في وسائل التواصل الاجتماعي بذكر مآثره وأعماله وأفعاله واقواله، على الرغم من اختفائه عن المشهد والاختصاص الذي ينتمي إليه مدة طويلة تلامس العقدين؟ ما الذي نفتقده في غيابهم وهم اصلا غائبون عن المشهد؟ وما الذي نتذكره بفقدانهم الجسدي ؟
ايها السيدات والسادة، انها الهوية !!!
وقد يظن البعض أنني اتكلم عن الهوية القومية لأنني قومي الهوى والمبدأ والعقيدة السياسية، ولكن الامر ليس كذلك . أنا أقصد الهوية بحد ذاتها . الهوية عنوانا وانتماءً ، اي كان الانتماء . لو نعود ونتذكر العراقيين من مواليد النصف الأول من القرن العشرين لرأينا مجتمعا مزيجا من البعثيين والشيوعيين والإسلاميين والليبراليين والمستقلين. يختلفون في الرؤى والمحركات الفكرية العظيمة، ويختلفون في الأهداف وفي الوسائل لتحقيق تلك الأهداف. ولكنه لا خلاف حولهم أنهم كانوا يحبون العراق ويختلفون في غيره من الأشياء . كانوا نزيهين، وعملوا بإخلاص في وظائف الدولة المختلفة وكانوا مهنيين، تعلموا المدنية وعبروا عن مكنوناتهم الحضارية بتميز، وكانوا امهر الأطباء والمهندسين واعدل القضاة والمحققين، واخلص الضباط واروع المثقفين والاعلاميين والفنانين . لا نستطيع ابدا أن نفرّق بين أبناء ذلك الجيل العملاق في اخلاصهم للعراق ولدولته العصرية الناشئة بعد سقوط الدولة العثمانية . ولكن بعد الزلزال العظيم في التاسع من نيسان من عام 2003، تربعت على عرش المؤسسات الحكومية طبقة من الحثالى الذين باعوا شرفهم للمحتل ومثلوا خير تمثيل مصالح الاجنبي، فسقطت منظومة القيم شيئا فشيئا. لأن ادوات الدولة من القضاء إلى التربية والتعليم إلى الصحة فالشرطة والقوى الأمنية، فضلا عن الجيش وكل القوى المرتبطة به، وكذلك الصناعة والتجارة وقطاع البناء والعمران، واخيرا الثقافة والإعلام والفنون، كلها أصبحت بيد من لا غيرة لهم ولا ضمير، أصبحت بيد من كان قبل الحكم واستمر بعده أداة تافهة بيد اعداء العراق والعراقيين.
نعم لقد سقطت المنظومة القيمية للمجتمع على يد اولئك الاوغاد والسفلي، وباعوا كل ما لم يكن معروضا للبيع من أجل إشباع غرائزهم الانتقامية وشهواتهم الحيوانية، وتلبية لرغبات أسيادهم في تل ابيب وواشنطن وطهران . فلذلك لا تستغربوا أن تروا مشاهد مقززة تتمثل في تقبيل جنود عراقيين لأقدام اجانب قدموا إلى العراق بحجة الزيارة . لا تستغربوا أن يسرقكم نور زهير بالمشاركة مع امعات العملية السياسية ومجرمي الميليشيات ثم يبقى حرا طليقا، لا تستغربوا عندما يعترف السياسيون علنا بجرائمهم في السرقات والرشوة ثم يستمروا بالعمل السياسي . لا تستغربوا أن يبيع ما يسمى بممثلي الشعب تراث العراق وآثار العراق وثروات العراق للأجنبي . لا تستغربوا أن يعلموا أولادكم في المدارس كيفية أن يكونوا اذلاء. ولا تستغربوا أن يترك ممثلوا الشعب شعبهم جائعا ومريضا وفقيرا وتائها، بينما يتقاتلون في اروقة البرلمان وعلى منصات الصحافة والإعلام من أجل تغيير قانون أنصف المرأة ليعودوا بها إلى أربعة قرون خلت عندما كان الجهل يسود المجتمع، ويتربع على عرشه الأميون من أصحاب العمائم . ولا تستغربوا أذا تسيدت الفاشينستات المشهد لتقود الدولة العميقة إلى جانب حمودي المالكي ومحمد رضا السيستاني وعمار الحكيم وغيرهم من نتائج زواج المتعة الثلاثي الصهيوني والأمريكي والايراني . لذلك فإن وفاة كل واحد من رجال أو ماجدات تلك المرحلة تذكرنا بالهوية التي كان يحملها أبناء ذلك الجيل العملاق . الرحمة والخلود للفنان المثقف الرائع حمودي الحارثي . وكل من سبقه من جيل الهوية .
إرسال تعليق