كربلاء ، حقيقة أو وهم

مشاهدات

 


د. حسين عبد القادر المؤيد

 

توضيح : ليس الهدف من هذا المقال الإساءة الى عقيدة أو طائفة ، وإنما فتح باب الحوار العلمي الموضوعي كي لا يتعطل التفكير العقلي أمام الموروث المفتقد للغربلة .

 

تسالم الباحثون عن مقتل الحسين رضي الله عنه ، على أنه قتل ومن معه من أقربائه وأصحابه ، في كربلاء ، دون أدنى مناقشة لهذا الموضوع  ، فالكل قد أرسل وقوع الحادثة في كربلاء إرسال المسلمات . ولم يقتصر الأمر على ذلك ، وإنما تسالموا أيضا على أن أولئك الشهداء قد دفنوا في كربلاء في المكان الذي قتلوا فيه ، بغض النظر عن صحة كون المراقد الموجودة حاليا ، هي المدفن الحقيقي لهم . ولكننا في نظرة تتوخى الدقة ، وجدنا علامات استفهام كبيرة ، بإمكانها تقويض ما تسالم عليه الباحثون في هذا المجال . ولسنا في هذا المقال بصدد البحث التفصيلي ، وإنما نريد الإلماع الى القرائن التي تنفي ذهاب الحسين الى كربلاء ، لنضعها بين يدي رجال الفكر والتحقيق والقلم ، بهدف إعادة النظر في الموروث التاريخي والمذهبي . ذكر المؤرخون أن الحسين رضي الله عنه ، قد خرج من مكة يوم التروية الثامن من ذي الحجة متجها الى الكوفة . والطريق الذي تسلكه القوافل بين مكة والكوفة ، هو الطريق الذي عرف فيما بعد بدرب زبيدة ، والذي في ضوئه وفي ضوء طريق البصرة حدد النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لتكون ميقاتا لإحرام أهل العراق ، ويلتقي الطريقان في أوطاس ومن أوطاس يتجه طريق واحد الى مكة مارا بذات عرق .

 

إن طريق مكة الى الكوفة يمر بمحطات كثيرة ، وقد قدّر طول الطريق بألف وثلاثمئة وخمسين كيلومترا . إن المسافر في هذا الطريق ، يتجه الى الأراضي العراقية من منطقة ( زبالا ) جنوب شرق رفحاء ذهابا الى ( واقصة ) وهي داخل الأراضي العراقية متجها الى ( المغيثة ) ثم الى ( العذيب ) ليتجه بعدها الى ( القادسية ) ثم الى الكوفة .  ومن الواضح جدا أن هذا الطريق لا يمر بكربلاء إطلاقا وليس قريبا منها ، فكربلاء نفسها تبعد عن الكوفة أكثر من ثمانين كيلومترا ، والقادسية تبعد عن الكوفة حوالي خمسين كيلومترا ،  وهي في كل الأحوال أبعد عن كربلاء من الكوفة . وحين نلتفت الى أن القوافل كانت تسير في اليوم والليلة مسافة تسمى ( المرحلة ) وتسيرها في جزئين ، جزء في الليل وجزء في النهار ، وكان مجموع السير في اليوم والليلة بحسب متوسط سرعة القافلة التي جرت عليها العادة 44.5 كم ومعدل سرعة 4.5 كم في الساعة ، فيكون متوسط السير عبارة عن عشر ساعات يوميا . أقول حين نلتفت الى المسافة والزمن الذي تقطعه القوافل في سيرها ، تستغرق رحلة قافلة الحسين رضي الله عنه من مكة الى القادسية حوالي تسعة وعشرين يوما ، بمعنى أن وصولها الى القادسية سيكون يوم السابع من محرم إذا كان ذو الحجة في تلك السنة ثلاثين يوما ، وفي يوم السادس من محرم ، إذا كان ذو الحجة في تلك السنة تسعة وعشرين يوما . وهكذا يتضح أن ما ذكرته بعض النقول التاريخية من تحديد يوم  وصول الحسين بالثامن والعشرين من ذي الحجة ، غير صحيح ، إذ لكي يقطع الحسين هذه المسافة في عشرين يوما ، لا بد أن يسير في اليوم والليلة خمسة وستين كيلومترا  ، أي في حدود ثلاثة عشر فرسخا ، أي يسير حوالي ستة عشر ساعة في اليوم والليلة ، وهذا ما لم يكن جاريا في ذلك الوقت ، وبذلك يتضح أيضا عدم صحة ما ذكر في تحديد وصوله الى كربلاء في الثاني من محرم .  ولنأت بعد ذلك الى النقول التاريخية وهي متعددة :


1- الرواية الصحيحة التي يرويها الطبري ، وهي أن ابن زياد أمر بأخذ ما بين واقصة الى طريق الشام الى طريق البصرة . بمعنى أن الطريق بعد واقصة الى الكوفة مغلق ، وتبعد واقصة عن الكوفة حدود مئة وخمسين كيلومترا . 


يقول الطبري : فأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا : والله ما ندري غير أننا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، قال فانطلق يسير نحو طريق الشام نحو يزيد فلقيته الخيول بكربلاء . بناء على هذا النقل ، نضع علامة استفهام على عبارة ( فلقيته الخيول في كربلاء ) ، ذلك أن للشام في ذلك الوقت طريقين : الأول ، طريق البادية وهو لا يمر بكربلاء إطلاقًا حيث تقع كربلاء على يمين الطريق بمسافة بعيدة . والثاني ، طريق الفرات الذي يسير مع الفرات وهو لا يمر بكربلاء التي تقع الى يسار الطريق حيث تبعد عن نهر الفرات غربا حوالي ثلاثين كيلومترا . 


2- الروايات التي تنقل أن الحر الرياحي المكلف بمنع الحسين من الرجوع وأخذه الى الكوفة وتسليمه الى واليها ابن زياد ، قد التقى بالحسين رضي الله عنه في شراف وهي بعد واقصة بمسافة قصيرة في نفس طريق مكة - الكوفة .

 

وحسب هذه النقول وصل الحر مع الحسين -  الذي رفض الانصياع للحر - الى حل وسط وهو أن يتياسر عن الطريق العام ، ريثما يكتب الحر الى ابن زياد بما جرى وينتظر ما يرده من ابن زياد من تعليمات ، ويبقى يساير الحسين بحكم مهمة الحر بمنع الحسين من الرجوع . بناء على ذلك ، يكون وجود الحسين رضي الله عنه في شراف ، في اليوم الثالث أو الرابع من محرم وفق ما تقدم من حساب الزمن والمسافة في السير المعتاد للقوافل . ونظرا لبعد شراف عن الكوفة بحيث يحتاج حامل البريد الى ما لا يقل عن ثلاثة أيام للوصول الى الكوفة ، وخلال هذه الأيام الثلاثة يسير الحسين والحر الى يسار الطريق العام ، لابد أن تكون الوجهة باتجاه منطقة قريبة من الكوفة ، فتكون إما عذيب الهجانات أو قصر مقاتل ، وسواء وصلت القافلة الى عذيب الهجانات أو قصر مقاتل ، فهي بعيدة عن كربلاء بمسيرة يومين أو أكثر حسب المكان الذي وصلت اليه .  وعادة إذا أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج من عذيب الهجانات أو قصر مقاتل ، فلن يتجه في مسيره الى كربلاء التي لم تكن سوى أرض خالية من العمران ، لأنه إن اختار الذهاب الى الشام ، فالطريق من عذيب الهجانات أو قصر مقاتل لن يمر بكربلاء ، سواء أكان طريق البادية الذي يذهب الى عين التمر ثم الى هيت متجها لدمشق ، أو طريق الفرات الذي يبعد عن كربلاء ثلاثين كيلومترا  حيث تقع كربلاء الى الغرب منه .

3- الروايات التي تفيد لقاء الحر بالحسين رضي الله عنه قبل وصوله الى القادسية ، وهي الأقرب لطبيعة الأشياء .

 

وبناء على ذلك يأتي نفس ما قلناه في النقطة السابقة ، فالحسين يتجه الى قصر مقاتل ، وإذا أراد تجاوز المنطقة باتجاه الشام فلن يمر بكربلاء . ثم هناك قرائن تفيد عدم وصول الحسين الى كربلاء ، منها .


1- أن عمر بن سعد الذي كان على رأس الجيش المأمور بالتوجه الى الري للفتح ، تحرك بأمر ابن زياد قاصدا الحسين رضي الله عنه ، ومن الطبيعي أن تكون وجهة الجيش معلومة إما تحديدا أو تقريبا ، والربط بين الوقائع يشير الى أن الرسالة الجوابية التي بعثها ابن زياد الى الحر الرياحي يأمره فيها بالتضييق على الحسين وإنزاله في العراء ، كانت متجهة الى جهة محددة ، بحيث وصلت في وقتها ونفذها الحر ، وبناء على ذلك اتجه عمر بن سعد . وحينئذ نقول إن الحسين رضي الله عنه ، قد فاوض عمر بن سعد مرتين ، وفي كل مرة يكتب عمر بن سعد الى ابن زياد ويأتيه الجواب ، الأمر الذي يعني أن المكان لم يكن بعيدا عن الكوفة ، ولو كان كربلاء ، فسيستغرق البريد زمنا يتعدى العاشر من محرم الذي اتفق المؤرخون على أنه اليوم الذي استشهد فيه الحسين رضي الله عنه ، فكربلاء تبعد عن الكوفة مسيرة يومين ، ومعنى ذلك أن البريد الذي كان على دفعتين ، سيستغرق ثمانية أيام ، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن وصول الحسين الى عذيب الهجانات أو الى قصر مقاتل لن يكون قبل اليوم السادس أو السابع من محرم ، فلا يتسق ذلك مع وجوده في كربلاء . 


2- أن المذكور في التواريخ والمقاتل ، أن المعركة كانت على شاطيء الفرات نفسه ، وكربلاء لم تكن على شاطيء الفرات ، والعلقمي لو سلمنا بوجوده في ذلك الوقت فهو لم يكن نهرا ولا يصح إطلاق شاطيء الفرات عليه ، و قد كان جدولا للسقي لا أكثر . 

3- ما ورد في بعض النقول أن الحسين رضي الله عنه قد التقى في قصر مقاتل بعمرو بن قيس المشرقي وابن عمه وأنهما اعتذرا عن مصاحبته ونصرته فنصحهما بترك المكان كي لا يسمعا واعية الحسين ، لأن من سمعها ولم يجبه فسيعاقب في الآخرة . ومن الواضح أن الحسين لو ذهب الى كربلاء وحدثت فيها المعركة ، فلن تصل واعيته الى الرجلين ، ومعنى ذلك أن المعركة كانت قريبة من قصر مقاتل بحيث تصل أخبار استنصار الحسين اليها ضمن ما يتوالى عليها من أخبار يومية .


4- ما نقل عن الحسين رضي الله عنه من قوله كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء . وهذا الكلام واضح في أن مقتله ليس بكربلاء وإنما في مكان آخر ، والبينية لا تساوق التوسط فضلا عن القرب من كربلاء . ويعزز ذلك القول الذي ذكر أن الحر الرياحي مدفون في النواويس وليس في مكانه الحالي المعروف ، فيكون مكان المعركة قريبا من النواويس ، فدفن فيها .


5- ما ورد في بعض النقول من أن جيش عمر بن سعد قفل راجعا الى الكوفة مع من تبقى من عائلة الحسين في كربلاء ، وأنه تعمد المبيت ليلا خارج الكوفة ، ليدخل في الكوفة نهارا دخولا استعراضيا ، فدخلها في نهار اليوم الثاني عشر من محرم . ولو كانت الواقعة قد حدثت في كربلاء ، فبملاحظة ما تقدم في مسير القوافل ، لا يمكن وصول جيش عمر بن سعد الى الكوفة ليلة الثاني عشر ، ذلك أن المسافة بين كربلاء والكوفة لا تقطعها القوافل في يوم وليلة ، فلا بد أن يكون المكان قريبا من الكوفة بحيث وصل اين سعد الكوفة في ليلة الثاني عشر من محرم . وهكذا نصل الى نتيجة أن ما اعتبر من المسلّمات من وقوع المعركة بين الحسين وجمعه وبين جيش عمر بن سعد في كربلاء ، يصطدم مع الأدلة والقرائن ، فكربلاء لم تكن مكانا للمعركة ولا مدفنا للحسين رضي الله عنه ومن قتل معه . وربما أن السلطة في ذلك الوقت دفنت القتلى وأرادت إخفاء المكان فأشارت أن القتلى دفنوا في منطقة قريبة من كربلاء التي لم تكن سوى أرض خالية من العمران .


تعليقات

أحدث أقدم