مقامة المتشابهات (غزة والعراق )

مشاهدات


 

صباح الزهيري

عكوف على رصين ما كتبت, وشغف بما قرأت , وعطف على ما اكتشفت , تنتفخ الاوداج وتشرأب الاعناق , ثم ان حكاية المهدي غالباً ما تظهر وقت اليأس وانكسار الشوكة, عندما ظهر نبي الأميين دانت له العرب , ثم أخلفت وصاياه فلم تعد تشد الرحال لمسراه, قرأنا انه سأل الخليفه مجنونآ, ما حكم السرقة, قال المجنون :

اذا كانت عن مهنة تقطع يد السارق , اما اذا كانت عن جوع فتقطع يد الحاكم , اين اصبحنا من تراث ألأجداد ؟ وهؤلاء باعوا الوطن , والحصار آخر فلسفات بني العرب , أنا والغريب على اخي , وانا واخي غريبان.

عام 2003 بعد الأحتلال , اصبحت بحكم وظيفتي أقيم في المنفى , بدأت أدرك حجم الفاجعة , وقيمة اشياء وتفاصيل كنت أظنها جزءا مملا من الحياة , فأذا بي احسها انها حياتي كلها , سنوات صداقتي مع نخلات الدار , وفترات جني التمر , وضوء القمر على سطوح البيوت, في صيف النفوف لنهر ديالى المجاور, وجلسات السهر في المقاهي مع الخلان , كلها انهارت في لحظة واحدة , كم هي خائنة تلك الأشياء التي تيمتنا وكنا نظن اننا تيمناها بدورنا فأكتشفنا ذات خديعة انها لم تكن سوى بائعة هوى تمضي مع من يدفع أكثر , وأنا الذي اريد ان احدثكم عن غزة .

نقلت القنوات عن مواطن غزي انه قال : (دعو غزة وشأنها , لاتهتكوا ستر الصمت حولها , لاتجربوا الدخول اليها ولو في الحلم , شوارعها ليست معبدة بما يكفي لتليق بأحذيتكم , ودمها الذي لايكف عن النزيف قد يلطخ ثيابكم ,لاتقرأوا كتب الشافعي كي لاتتذكروها , لاتخبروا اولادكم عنها كي لايواجهوكم بأسئلة الأطفال المحرجة) .

من ارشيف المعذبين في الأرض أنقل لكم : لكل شيء خطوة اولى , حتى للعذابات , وفي الطريق من الفردوس الى التيه كانوا يتسائلون ماذا ستفعل السنابل بقمح كان من المفترض ان يكون لهم؟ وماذا ستفعل الدوالي بعنب لم يخلفوا يوما مواعيد قطافه ؟ وكيف ستنفتح أرغفة غيرهم على وهج تنانير بنوها هم على عجل من طين وماء كأعشاش الدوري الصالحة لتزاوج واحد؟ وكيف لنايات أوجدوها من قصب لم يكن صالحا الا لمشاكسة الريح , ان تحبل بهواء خارج من غير رئاتهم ثم تلد أنغاما من سفاح ؟ وماذا ستفعل الطيور ان عادت ولم تجدهم وهي التي ودعتهم في لعبة فراق ولقاء يتعاقبان كالليل والنهار فلا يخلف احد موعده ؟

ايها الخارج من وطن لفظته المجرة عن مداره في لحظة ارتباك كوني , وحين ارادوا اعادته وجدوا المدار مغلقا , والخارج كرها من ارض لم يبق منها الا حكايات جدات , وحفنة ذكريات .

في غزة والعراق , نحن لانكبر بالتدريج بل نشيخ دفعة واحدة , نطرق ابواب الوطن بأنامل الفقد , وحين نجدها موصدة نكبر على العتبات , ويشتعل النشيج , فنكتشف كم نحن طاعنين في الهزيمة.

ولما كبرت عرفت ان الوطن أكبر من حضن وحكاية , وأن الذين يولدون بلا وطن يبقون جوعى مهما أكلوا من خبز المنافي , في الجامعة يسألونك عن الوطن وكأن الكتب تتوجس من الغرباء , وفي المطارات يسألونك عن الوطن وكأنه سيصعد معك الى الطائرة , فتروي لهم بحرقة حكاية وطن لايمكنه أصدار جواز سفر.

لابد من ذكر رائحة الخيبة المنبعثة من ثياب المفجوعين بأحلام هوت , كبيوت الرمل التي يصنعها الأطفال على الشاطيء , لفرط برائتهم ظنوا ان البحر دوما بمزاج واحد. ماذا ندفع الآن نحن الفقراء كما ينبغي , التعساء كما يستحق ؟ الذين لم يسيجوا اوطانهم , البؤساء كما يليق بالذين قاسموا خبزهم مع كل عابر دون ان يسألوه من اين اتيت والى اين تمضي , هناك وقبل ان اتخذ قرار الرجوع السريع اكتشفت كم نحن طاعنين في الهزيمة, واكتشفت ان المخلوع من وطنه يستحيل ان تستره كل خيام معسكرات اللجوء , ثم عرفت انه يلزمني سنوات لأجيد الأستعطاء , وسنوات أخرى لأ ألف الخيبة.

وفي خيام المعسكرات نكبر على الهم ونتكاثر ونتوارث الضياع , وعلى حبات العدس نعيش ,هناك حيث يربتون على الكرامة ويقولون : كم انت جدير بالذل . مدينتي يرطن الأميركان في ارجائها ومرافقوهم اخوة يوسف يترجمون اللغة الثقيلة بغية التطبيع , الا ان الليل طويل يفتح بريد الشوق لقحطان وعدنان وحين يعاودون صباحا نرطن بدورنا ( قل أعوذ برب الفلق ), فيتأففون من هذه المدينة الغبية.

نسد آذاننا بالقطن عند مواقيت الصلاة فصوت الآذان في مدينتي حزين بما يكفي ليفطر القلب .

تعليقات

أحدث أقدم