مقامة نخلتي حلوان :

مشاهدات

صباح  الزهيري

لا أدري كيف جاءت قصة نخلتي حلوان في مجلسنا ألأسبوعي هذا اليوم , ولكن اذكر ان الموضوع تفرع عن حديث مسهب عن مندلي , وحلوان تبعد عن حدود مندلي حوالي 70 كم شرقا داخل الأراضي الأيرانية , يمر بها ثم سربيل زهاب طريق الحريرالشهير , وقد كانت سابقا ضمن أراضي العراق الى ان تنازل عنها الباب العالي في الدولة العثمانية الى دولة الصفويين في تسوية ماوراء حربهما . وقد اسهبنا في الحديث عن نخلتين عجيبتين متجاورتين تكادا تتعانقان , بسقتا في ناحية متواضعة بحلوان (في آخر سواد العراق) , ,وقد لبثتا حيناً من الدهر يمر بهما الناس في الغدو والرواح , فلا يسترعيان انتباه إنسان , حتى نزل بهما مطيع بن إياس الليثي , وكان شاعراً متمكناً يسلك بقريضه فجاجاً متشعبة, فتحدث عنهما حديثاً جازت به الركاب , وتناقله الرواة فتسامع به الوزراء والخلفاء , وقد ضرب الدهر ضرباته بالنخلتين فطواهما في عنف عن الوجود منذ ألف ومائتي عام , ليبقى حديثهما في الشعر معطراً بعبير الخلود . ويحكى ان الشاعر مطيع بن إياس كان قد قال أبياتاً في جارة له أحبها في الري , ثم اضطر الى مفارقتها , فلما كان في طريقه مر بعقبة حلوان , فجلس يستريح إلى نخلتين هناك وذكر صاحبته فقال : 
 
(( أسعِداني يا نخلتي حلوان ** وابكيا لي من رَيبِ هذا الزمانِ
واعلما أن رَيبهُ لم يزل يفْـ ****** ـرُقُ بين الأُلافِ والجيرانِ
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ********* قةِ أبكاكما الذي أبكاني
أسعِدَاني وأيقِنا أنّ نحساً ******** سوف يلقاكُما فتفترقانِ)) , 
 
وقد جعلت هذه الأبيات لنخلتي حلوان تاريخاً وذكرى بين الأدباء والشعراء , وقد ورد عن طه حسين في (حديث الأربعاء)  : ان المنصور أراد أن يقطعهما , فلما أنشد هذا الشعر كره أن يكون النحس الذي يفرق بينهما , وأراد المهدي أن يقطعهما , فنهاه المنصور عن ذلك, وعندما مر الرشيد بحلوان وهو ذاهب إلى طوس , هاج به الدم , ووصف له الطبيب جُمّاراً , فلما سئل الدهقان أشار إلى النخلتين , ولم تكن في حلوان غيرهما , فقطعت إحداهما , ثم  مر الرشيد بالأخرى , فرأى عليها هذه الأبيات, فندم وقال : لو علمت أن هذه الأبيات قيلت في هاتين النخلتين ما عرضت لهما, ولو قتلني الدم . كانت حياة اللهو والمرح قد غمرت مطيعاً بمباهجها الفاتنة, فاصطحب الخلعاء, ونادم الظرفاء, وتحفز إلى أسراب الكعاب يسارقهن البسمات , ويخالسهن الصبوات , غير أن الدهر لم يفلته من كيده , فقد أوقعه في غرام جارية فاتنة تحت يده , فملكت عليه فؤاده وتخطفت أزمة رشاده, ثم حزبه الخطب الملم , فاضطر إلى بيعها اضطراراً, وهام في الآفاق على وجهه فقذفت به النوى إلى حلوان , ثم برح به الشوق إلى حسنائه , واشتعل الحنين في أحشائه فنظر فيما حوله ذات اليمين وذات الشمال فرأى عن كثب نخلتين متجاورتين ترتفعان في الأفق إلى مدى شاهق, وقد هبت بهما رياح منعشة, فرنحت عطفيهما, وحاولت أن تضمها ضماً يبرد الغلة وينقع الشوق, فاشتبكت فروعهما السامقة في أجواز الفضاء وقتاً غير قصير.  ذلك المنظر العاطفي الأخاذ, عصف بالشاعر عصفاً عنيفاً, فتذكر ملاعب الصبوات, وعهود المسرات, وحسد النبات على التئام شمله, واكتمال صفائه, وكأنه تصور للنخلتين آذاناً تسمع وعقولاً تفهم , فأخذ يحدثهما بضربات الدهر, وفتكات الأيام , ثم استشهد بنفسه على صحة ما ادعاه, فذكر جاريته الحسناء وكيف كانت تذهب شجونه وتسري همه, غير أن الزمان لا يبقى على أنس, فاستل روحه من جسمه, ووقف له بالمرصاد أنى سار وهو لا بد سيقف للنخلتين موقفه منه, فتبدلان وحشة بعد أنس, وتناءيا غب لقاء, وهكذا يتشاءم الشاعر تشاؤماً يرفه عن خاطره, ويبرد من لوعته, وفي النفوس من يلحقها الألم الممض فتشتعل من الغيظ اشتعالاً, ولقد علل مطيع نفسه بما سيلحق النخلتين - قبل وقوعه - فبردت جوانحه وطفق يصف شجونه المتحاربة, إذ يقول :
 
((أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نخساً ................ سوف يأتيكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ............... قة أبكاكما الذي أبكاني
كم رمتني صروف هذي الليالي ..... بفراق الأحباب والخلان
جارة لي بالري تذهب همي ........... ويسري دنوها أحزاني 
 
وبرغمي أن أصبحت لا تراها العين مني وأصبحت لا تراني )) , وإذن فقد روح الشاعر عن نفسه ,وكأن النخلتين قوة أصاختا لشعره فأسعدتاه بما يريد, أو هكذا تخيل ذلك, فخف إلى بغداد بارد الصدر, وقابل صديقه حماداً فأسمعه ما قال في النخلتين من الشعر, وعبر عن سروره بما تخيله من الإسعاد والعون . وتمضي الأيام في سيرها الرتيب فتميل على قوم بالرفاهية والأمن, وتلهب آخرين بسياطها الملتهبة, فتصهر الأفئدة, وتحرق الجلود, ومنهم حماد صاحب مطيع, فقد ثارت به عاصفة هوجاء كادت تطيح بحياته, فتذكر شعر صاحبه, وخف إلى سدرتين مائلتين بقصر شيرين, وهو يظن كل الظن أنهما ستسعدانه, وستمثلانه دور النخلتين أصدق تمثيل, وينظر حماد إلى السدرتين الشاخصتين فلا يحس براحة, فينقلب إلى منزله ساخطاً ناقماً, ويجمجم بحروف حزينة تألف منها هذان البيتان:
 
((جعل الله سدرتي قصر شير ..... ين فداء لنخلتي حلوان
جئت مستسعداً فلم تسعداني ... ومطيع بكت له النخلتان)) .

 

تعليقات

أحدث أقدم