كوكب يأفل في الغربة

مشاهدات

 






محمد السيد محسن 



في حزيران عام 1994 وفي فيلا لاحد السوريين في حي صحنايا في ريف دمشق اجتمعنا مجموعة من العراقيين بحفل لم يتم التنسيق له مسبقاً ، حضره مظفر النواب وكوكب حمزة وجمعة الحلفي وباسم قهار واخرون كنت من بينهم ، وحين بدأ مظفر بغناء اغنية "لاخبر" اشتركت في الغناء وما هي الا لحظات واكتشفت اني الوحيد الذي يغني ، حيث بدأ الجميع يستمع لصوتي ، والمفاجأة ترتسم على وجوههم ، واذا بكوكب حمزة يقول لانتشال التميمي : هات لي العود ..اريد اركز ، طلب مني ان اغني "ينجمه" وبدأت بغنائها ثم غنى مظفر مع جمعة الحلفي "لوتحب لو ماتحب" وشاركت أيضا بالغناء فصمت الجميع لابقى وحدي اغني مع عود كوكب حمزة الذي كان منتشياً بالعزف وهو يشير باعجابه بصوتي وادائي للاغاني التي كنت اغنيها ، وبعد شيوع الصمت قال لي :إنتَ وين چنت مضموم؟ 

بدأ مظفر النواب يعرفني لكوكب بقوله هذا شاعر عراقي شاب ولكن له مواهب عديده ، وانا احب صوته .

اخذت الجلسة زمنا مر طويلاً على مسمعي وانا بين مديح وعروض كي اغني واسجل اسمي ضمن المطربين العراقيين، حتى انتهت الجلسة وودعني كوكب بوداع خاص وهو يؤكد على ضرورة ان نلتقي مجدداً .

تجددت اللقاءات مع كوكب في ليالي دمشق العراقية الساحرة ، وكان معجبا بصوتي ، وكان غير معجب بلحيتي التي ورثتها من وجودي في الاسر في ايران ، وحين قرر ان يعود الى الدنمارك أوصى أبو حالوب في مقهى الروضة ان ينقل له اخباري .

تلك علاقتي مع كوكب حمزة اكاد اختصرها ببضع ليال دمشقية لا غير ، بيد اني اعترف بعشقي لالحان هذا المبدع الصبي ، الذي بقي وسيماً وشاباً عجزت العقود ان تحني ظهره او ان تنال من كثافة شعره رغم غزو الشيب له.

كان كوكب لا يتحدث كثيراً حين تجالسه وكان هادئاً كأنه مطمئن بكونه مستمع كبير ، ولكني اعرف تماماً ان لديه وجهة نظر بكل الاحداث التي عصفت ببلاده وكلفته غربةً واغتراباً حتى حين كان في بغداد قبل هجرته السياسية التي اختارها مع الاف الشيوعيين العراقيين بعد غدر رفاقهم المفترضين من حزب البعث بالجبهة الوطنية.

تحدث يوما عن اغنية "بنادم" وظروف كتابتها وتلحينها ، وقال انه و أبو سرحان كانا في غرفة بائسة في فندق سمير اميس في الحيدر خانه ببغداد وكانا يتابعان اعترافات عزيز الحاج وهو يتحدث عن رفاقه الشيوعيين ، وكيف اعطى لنفسه دور تأسيس الكفاح المسلح وقيادته ، وكيف يعلن انضمامه الى حكومة حزب البعث ، فما كان من أبو سرحان الا القول : ولك بنادم هيده على بختك ..يقول كوكب توقفت عند هذه الجملة وقلت لابي سرحان اكملها كأغنية ..اكتملت ولحنتها وبقيت حبيسة ذهني غير مدونة لاكثر من ثلاث سنين ، ثم اقنعت اللجنة الخاصة بالاغاني في الإذاعة والتلفزيون لتسجيلها ، حيث لم يعد الحدث المؤسس للاغنية يلمح الى مقصودها ، وأشار كوكب انه استخدم الايقاعات الحسينية التي ترافق طقس "التطبير" مرافقة للحن الاغنية او ما اسماه حينها "المشق" وهذا لفظ يعرفه أصحاب المواكب في النجف وكربلاء حصراً.

كوكب حمزة يكاد يكون الملحن العراقي الاول الذي يؤسس لأغنيته قبل ان يشرع في نشرها ، ولكل اغانيه هناك هدف بين السطور ، امتاز كوكب باضفاء البهجة الممتزجة بالحزن الواضح ، وكانت اغنيته مثل لافتة حزبية يراهن على تأويل مقاصدها من قبل مستمعيها ، حيث اشتهر بالگنطرة التي خضعت للتأويل بشكل كبير بين مستمعيها ، ما حدا بالرقيب وقتذاك لمنعها ، واغنية "وين يالمحبوب" كذلك .

كان من الأوائل الذين افاضوا على الاغنية العراقية تنوع اللحن واستخدام اكثر من مقام في الاغنية الواحدة وامتازت اغنيته بالتحولات اللحنية مثل "تانيني التمسچ " لفؤاد سالم. 

كان حزيناً جدا لفراق رفيق دربه ذياب گزار أبو سرحان الذي اختطف من قبل العصابات الصهيونية بعد احتلال بيروت عام ١٩٨٢ 

 ولم يسمع أي خبر عنه ، وكان دائم السؤال عن مصيره او أي جديد عنه 

وحين قررت الهجرة الى اوربا عام 1995  نصحني مظفر النواب قائلاً : سيقتلك الثلج هناك وتتجمد مثل ما تجمد كوكب حمزة ، فهو لم يقدم شيئاً مثلما قدم أيام كان بيننا.

الحديث عنك يطول يا كوكب ولكن موتك لا يعني الأفول بل انك تبزغ حين نختلي مع الليل وتصدح حين نغني ..وداعاً يا اخر الكبار

تعليقات

أحدث أقدم