هذا التجريم الفرنسي لتحشيدٍ من أجل فلسطين

مشاهدات

 


د. ولاء السامرائي


بسرعة وبدون التحقّق عن الأمر من منظّمي يوم النشاط الأوروبي في مدرسة العلوم السياسية في باريس، تناوب رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون ووزيرة مكافحة التجريم وعدة وسائل إعلام على نشر ما أورده اتحاد الطلبة اليهود على صفحاتهم إن الأصوات الفلسطينية في مدرسة العلوم السياسية قد منعوا دخول طالبة لأنها يهودية صهيونية . وكتبوا في تعليقهم : "هذا تجاوز للحدود في قاعة المدرسة ، إذ طُلب من أعضاء اتحاد الطلبة اليهود المغادرة لأنهم يهود وصهاينة . ندعو إلى عقوبات نموذجية ضد الطلاب". وقد أرسل الرئيس ماكرون حالا رئيس الوزراء غابريال عطال إلى مدرسة العلوم السياسية ، وأمر هذا بتغيير إداري فيها ، ورفع دعوى لدى المدّعي العام . كما سارعت وزيرة التعليم سلفي روتايو إلى الذهاب للمدرسة ، وعلّقت وزيرة المساواة أورور بيرجيه بأن لما حصل اسم ، وهو معاداة السامية . أما الناطقة باسم الحكومة فقالت إن ذلك يسمّى الانعزالية ، في إشارة الى القانون سيء الذكر الذي مرّرته حكومة ماكرون لوصم المسلمين في فرنسا . وحال ما انكشفت الحقيقة ، انتقد سياسيون تدخّل الرئيس ماكرون بمثل هذه التفاصيل الصغيرة، ومبالغته في الإجراءات التي هي من اختصاص إدارة المدرسة ، ورأى صحافيون موالون للرئيس أن ما قام به تسرّع وعملٌ في غير مكانه . وأجرت أكثر من قناة إعلامية مستقلة ، وبعضها كان حاضرا لتصوير النشاط الذي نظمته لجنة فلسطين في مدرسة العلوم السياسية التي تعدّ من أهم المؤسّسات التعليمية في فرنسا والعالم، مقابلاتٍ مع منظمي هذا اليوم الأوروبي الذي يقام بتنسيق مع كل الجامعات الأوروبية التي قرّرت تخصيص يوم 12 مارس/ آذار من أجل فلسطين للمطالبة بوقف الإبادة في غزّة، ووقف المستوطنات وقضم الأراضي الفلسطينية وإيقاف التبادل مع خمس جامعات إسرائيلية تدعم الحرب على غزّة، أسوة بما حصل مع الجامعات الأوكرانية الداعمة للحرب الروسية . وقد نشر موقع أوريان  XXI إعلاناً عن هذا النشاط الذي انتظم بموافقة إدارة المدرسة من دون أي مشكلة . دعت لجنة فلسطين في العلوم السياسية، وهي مؤلفة من طلاب الدكتوراه وأساتذة وباحثين في الدراسات العليا ، إلى الندوة أساتذة جامعيين من فلسطين وطالباً فلسطينياً لاجئاً من غزّة إلى مصر ، إضافة إلى أصوات أخرى، منها يهودية ، وامتلأت القاعة بالحضور، وسمّى الطلاب القاعة باسم غزّة ، وزيّنت بالأعلام الفلسطينية ونشرت الكوفيات في أرجائها وحول أعناق الطلاب من كل الجنسيات . 

 

ونقل موقعان إلكترونيان (بلاست وميديا) عن طالبٍ قوله إن النشاط الذي أقاموه تم بموافقة الإدارة التي صرّحت لهم به ، وأخبرتهم ، في الوقت نفسه ، بأنها "لا تتحمّل مسؤولية سلامتهم". وقال "هناك طلاب وطالبات نعرفهم جيدا يلاحقوننا بشكل مستمرّ، ويسجّلون لنا فيديوهات تنشر على الإنترنت (وعلى الأرجح تُرسل إلى مستويات أعلى تراقب الأصوات الفلسطينية في فرنسا) ونستلم تهديداتٍ ، وقد رفضنا دخول طالبةٍ منهم حفاظاً على سلامة الطلاب . هذا كل ما في الأمر، ولم يكن هناك منعٌ لحضور أيِّ شخصٍ ، بل كان معنا 33 طالبا من اليهود المناهضين للحرب على غزّة ، شارك بعضُهم بمداخلات . لقد صُدمنا من موقف المدرسة التي تتضارب فيها الآراء عموماً بوصفها مدرسة علوم سياسية ". ويُذكر أن مدرسة العلوم السياسية في باريس اتّخذت مواقف سياسية إزاء أحداثٍ عديدة في العالم، لكنها امتنعت اليوم عن تنظيم  دقيقة حدادٍ من أجل غزّة ، بل إنها توصي الطلاب بعدم الكلام عمّا يحدُث، ورغم أنها قدّمت ترتيباتٍ خاصةً للطلبة الإسرائيليين، تماشياً مع الأحداث لدعمهم، وكذلك فعلت مع الطلبة الأوكرانيين، لكنها رفضت تقديم الإجراءات نفسها للطلبة الفلسطينيين . ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول ، ترفع المدرسة وتيرة التهديدات ضد الأصوات الفلسطينية ، وتراقب ، علناً ، الجمعية الرسمية التي تأسّست باسم الوقوف مع فلسطين، وتراقب كل نشاطاتها، وتمنع محاضراتِها بادّعاء أنها إشكالية . وقد قال الطالب "نشعر بالمراقبة ونحذّر من الطريقة التي نعمل ونتكلّم بها . ندعو أكاديميين للكلام في هذه المواضيع وأطباء للشهادة عن الأوضاع في غزّة . ورغم ذلك، المحاولات مستمرّة لخنق الأصوات الفلسطينية وملاحقتها . ليس ذلك فحسب، بل يلاحق الطلبة اليهود الطالبات المحجّبات ويصورونهن وينشرون صورهن على شبكات التواصل الاجتماعي، ويستخدمونها ضد حزب فرنسا الأبية لوصمه بتيار إسلامي - يساري . ورغم الشكاوى المتكرّرة من الطلاب لدى إدارة المدرسة ، الا اننا لم نحصل الا على التجاهل". وتقول ديزيري، وهي طالبة ماجستر في القانون الدولي، إن أساتذة صرّحوا في المحاضرات بضرورة محو غزّة وكسر التظاهرات من أجل فلسطين في المدرس ة، ونشر أحدهم تعليقه هذا على منصة X من دون قلق من استدعاء أو محاسبة . وبحذر صرّحت لنا أستاذة بأنكم شجعان بعمل هذا النشاط والتعرض للتهديد والملاحقة والهجمات بمثل هذه الأجواء . وقالت لودميلا، وهي طالبة يهودية وعضو لجنة فلسطين وقدّمت مداخلة عن اليهودية والصهيونية في الندوة ، إن "الإعلام شوّه ما جرى أمام مبنى المدرسة ، ومن السخرية اتهام طلبة العلوم السياسية بمعاداة السامية، في حين أن الجمعية مرخّصة من المدرسة . كان النشاط الذي أقيم من أجل فلسطين رائعاً وناجحاً جدّاً، حتى أنني تأثّرتُ بالمشاركة الواسعة للطلاب الذين تجاوزوا ثلاثمائة طالب وطالبة أمام المدرسة وقاعة مليئة بالطلاب. 

 

استمعنا في الندوة إلى أكاديميين غير غربيين، حيث تداخل أساتذة من القدس، واستمعنا إلى شهاداتٍ مؤثرة جدّا من طلاب كانوا في غزّة عاشوا الأحداث، وهو ما يعطي سردية مختلفة عن شهادات الآخرين". "نحن حزينون لاتهامنا بتهمة بمعاداة السامية"، يقول هشام، ويضيف "تهمة خطيرة، ونحن نقول دائما إن أي تعبير عن ذلك لم يحدُث معنا ولم يحدُث في هذا النشاط. ودائما ما صرّحنا بأن تحرير فلسطين لا يتم بمعاداة السامية. نحن في مؤسّسة تقوم على المبادئ الإنسانية وتخرّج طلاب ماجستير في الحقّ الإنساني، حتى عندما نلتحق بدراسة العلوم السياسية نقول إننا سنغيّر العالم الحديث، وأقل ما يمكن أن نفعله أن يكون لنا موقف أمام الإبادة، حيث نرى أن هناك آلية للدفاع ولتجريم ما يحدُث، فهناك استعمار واستيطان وتعامل مختلف مع المواطنة ومع الفلسطينيين". جاء تجريم الأصوات الفلسطينية المنظمة لهذه المناسبة في مدرسة العلوم السياسية في باريس بسبب أمر لم يحدُث من أعلى المستويات الرسمية، وهو يعكس فعليا حقيقة الحملة المستمرّة والمكثفة اليوم في فرنسا بسبب جرائم دولة الاحتلال وحرب الإبادة التي تشنّها ضد شعبنا في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى. منذ أكثر من عقد ونصف العقد، تُبنى تهمة معاداة السامية غالباً على حوادث تسمى أيضاً من نوع ما حدث في العلوم السياسية، ثم يجري تضخيم أرقامها والدعاية لها في الإعلام المهيمن الصهيوني حسب الأحداث. ويدّعي داعمو نتنياهو أنها ازدادت بعد "طوفان الأقصى" بنسبة ألف بالمائة من دون دليل يُذكر سوى تكرار حالات عادية تافهة بغرض إيقاف دعم الشعب الفلسطيني المتزايد على كل المستويات، والذي يتبدّى لدى الشباب اليهود كما هو الحال في الولايات المتحدة وفي جامعاتها والجامعات الكبرى في أوروبا، كما تهدف إلى اصدار مزيد من القوانين تقنن الحريات الشخصية وحرية التعبير التي تتباهى بها كذباً نخبٌ عنصرية تحرٌض من أجل الحرب الأهلية بين الشعب الواحد، وعلى العيش المشترك بسلام، وهي النخب الانعزالية بامتياز، وهذا ما حصل، إذ جرى التصويت على قانون إضافي آخر قبل أيام، ليس لتقوية الترسانة التشريعية لمحاربة معاداة السامية والعنصرية كما ذكر، بل لتوسيع التجريم ليصل إلى الفضاء الخاص، مثل الحديث في العمل أو على منصّة واتساب وتفاصيل أخرى! وقد قال، محقّا، النائب أنطوان ليومونت من حزب فرنسا الأبية في البرلمان إن هذا القانون غير مُجدٍ، ويعالج حيّزاً محدوداً فقط، ويهمل معالجة العنصرية المتفاقمة في العمل والسكن ضد المواطنين بسبب الدين أو اللون التي وصلت إلى الرقم الأسود 1.2 مليون حالة. ... وبالتوازي، يستمر الهجوم الشرس من الأوساط نفسها، مع قرب موعد الانتخابات الأوروبية في يونيو/ حزيران المقبل، على حزب فرنسا الأبية التي وقف مؤسّسها ونوّابها مصدّاً قوياً ومتيناً ضد الأغلبية التي تساند حرب دولة الاحتلال العنصري، ومن دون كلل تطالب يوميا وفي كل مناسبة بوقف الإبادة والحرب حالاً على غزّة، ووقف تزويد الكيان العنصري بالسلاح والأموال. انكشاف هذه الأكاذيب على الملأ فضيحة كبيرة تُسقط حجج الصهاينة (وأصدقائهم) وادّعاءاتهم في استعمالهم فزّاعة معاداة السامية لمحاربة العرب وإقصائهم من كل فضاء لإسدال الستار على الحقّ الفلسطيني، لكن عملية طوفان الأقصى وجرائم الاحتلال حطّمتا جدران الخوف والحذر لتحلّ محلّها الشجاعة والجرأة والعزيمة في مواجهة البعبع اللوبي بالحجّة، وهو الإحساس الذي عبّرت عنه الأصوات الفلسطينية في مدرسة العلوم السياسية، إذ قالوا "هم يخيفوننا بكل الوسائل، لكنّنا مصرّون على الاستمرار بالدفاع عن الشعب الفلسطيني ووقف الإبادة ولن نتراجع".

تعليقات

أحدث أقدم