العلاقة التصادمية بين سياسة الإسلام والإسلام السياسي؟

مشاهدات

 




أستاذ الفكر السياسي

الدكتور: أنمار نزار الدروبي



ربما لم يفطن الكثير لموضوع إثبات صدق النبوّة بمنطق العلم، أو جدل الدين الواحد إضافة لحتمية حدوث أخبار النبوّة. لم نسمع بنبيّ يناقض نبيّ آخر ويدحض نبوّة من سبقه، جميع الأنبياء أتت نبوّتهم عن مصدر واحد هو الله. كان موسى نبيّا وقائدا لبني إسرائيل وكان داوود نبيّ محارب ورجل دولة، وكذلك سليمان في مملكته وإنجازاته العمرانية وحكمته السياسية، والنبيّ العربي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قلب كيان جزيرة العرب وأسس لنظام دولة عظمى. جدليّا يعتبر فصل الدين عن الدولة نسفا تاما للدين والنبوّة، لا بأس أن نتقبل وجهة النظر العلمانية من باب قطع الطريق على استغلال الطبقة الدينية الكهنوتية المتطفلة على استغفال عقول البشر. وإذا فرضنا أننا قبلنا منطق العلمانية باعتبار الدين من ابتكار العقل البشري فهذا المنطق سيمنح الأنبياء مقدرة عالية في السياسة وعلم الاجتماع لمستوى خلق رقيب وازع في ذات البشرية ويحد من انفلات عقال المجتمعات بما يعفي من اللجوء الى استخدام القوة.

أنا هنا لا أحلل سياسة الإسلام العظيمة ولا أدرس عوامل غلبتها ولكن أذكر ببعض الحقائق التي ربما غفل عنها بعض من درس أدق تفاصيل أفكار جماعات الإسلام السياسي، والبعض الآخر في دراسته كان أسيرا لرغباته الخاصة ومدفوعا بوهم تحقيق انتصار يفتقد لأبسط المفاهيم. لاسيما إن الاستغراق في الجزئيات يفقد المراقب إدراك الصورة العامة.

ولكي ننصف الإسلام ونبرئ ساحته السمحاء فإن الغاية من هذا المقال هي، وضع الأشياء في نصابها الصحيح واثبات بعض الحقائق وهي:

الحقيقة الأولى:

إن سياسة الإسلام العظيمة، هي سياسة دينيّة شرعيّة معتدلة ونبيلة تنسجم مع تجليات الحضارة والتقدم العلمي ولا تتناقض مع منطق العصر استنادا لمبادئ تعلمناها من سيرة قائدنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام الذي جسّدت لنا سياسته حقيقة، أن الأهداف والغايات النبيلة المشروعة لا يمكن أن تتحقق إلا بانتهاج وسائل نبيلة ومشروعة. وبنظرة مبسطة سنرى كل الأنبياء كانوا يسخطون على واقعهم ويدعون الى تغيره وجلهم كان عالما مصلحا، والبعض منهم كانوا زعماء لحركات إصلاحية وثوريّة وتشكلت أحزابا من خلال دعوتهم وخاضوا حروبا وأسسوا دول وأنظمة. عليه فإن الأنبياء الثوّار هم اللذين أحدثوا تغيّرا في الواقع الإنساني ابتداء من السلطان العظيم آدم مرورا بنوح الذي صنع سفينة البقاء الى إبراهيم الذي هشّم أصنام النمرود ثمّ موسى في عصاه التي ابتلعت أفاعي الطغيان وشقت البحر الأحمر ومرورا بمملكة داوود وسليمان حتى المسيح عيسى بن مريم الذي محق العجل الذي عكفت عليه اليهود ومهّد الطريق لثورة النبيّ الأمي المهدي محمد بن عبد الله في جزيرة العرب غربا الى الصين شرقا. 

الحقيقة الثانية:

إن تيار الإسلام السياسي لا يمثل إلا نفسه ولا يخرج عن كونه فرقة أو طائفة سياسية تستند إلى أيديولوجية ورؤيا خاصة هدفها السيطرة على سلطة الدولة لتحقيق المصالح الخاصة لها. وبالنظرة الواقعية إلى فعالية الإسلام السياسي، نرى أنه وبكل تأكيد قد جرى وما يزال يجري استثماره وتوظيفه في موازين ومعايير السياسة الدولية. في الوقت نفسه، أن تزايد تيار الإسلام السياسي بكل تجلياته والوانه على ساحة الأحداث في ظروف معينة يثير تساؤلات كثيرة عن حقيقته والأدوار التي يؤديها على الساحة العربية والإقليمية. وإذا تفحصنا طبيعته بدراسة تحليلية واجرينا مراجعة تاريخية فسوف نجد أن تيار الإسلام السياسي ظاهرة يتزايد نشاطها في أحوال معينة لتؤدي وظيفة ما، ثم ينخفض تدريجيا مع انتفاء الحاجة لهذا التوظيف.

بالتالي لم تزد الأفكار المتطرفة للجماعات الراديكالية بشيء على الوثنيّة وعبادة الطواغيت، فرعون والنمرود وهتلر وستالين ونماذج كثيرة لا تخلو منهم الأزمنة على نفس القياس والشاكلة، الذين يعبدون الشمس والكواكب أو يعبدون البقرة.

لقد حذرنا قائدنا العظيم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين يلبسون ثياب التدين ووصفهم بالتشدد والجلافة وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّ. والأخطر في هذا الاتجاه يمكننا تصنيف كل الجماعات الارهابية والحركات السياسية الدينية من خلال اتجاهاتها وأفكارها الرجعيّة ومن تخدم وتتبع لأي جهاز استخباري أو حكومة تمولها. وللعلم تعتبر هذه الطبقة من ألد أعداء الأنبياء ولا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم حفاظا على مصالحها ومكتسباتها من الدين، وهم كذلك من أشد الداعمين للطغيان والاستبداد الى حد تبرير فساد السلاطين وإسنادهم بالفتاوى.  

إن التاريخ الثقافي والفكري للإسلام السياسي يؤكد أنه قد سلب جماعاته إنسانيتهم ونزع عنهم حريتهم، تلك الحرية التي تميز الإنسان عن غيره، وألا يكون فردا من ضمن أفراد القطيع الذين يتشابهون شكلا ومضمونا، بالمقابل فإن سياسة الإسلام العظيمة تساوي بين الناس وتماثل بينهم وبين آرائهم وأفكارهم دون اعتبار لتمايزهم واختلاف اشكالهم. من هذا المنطلق هناك فرق شاسع بين سياسة الإسلام العظيمة والإسلام السياسي، بيد أن سياسة الإسلام العظيمة قد عرت الإسلام السياسي بأفكارهم ومنظريهم وشيوخهم، ونزعت الأقنعة عن وجوه الخرافات والأكاذيب التي تروج لها جماعات الإسلام السياسي باعتبارها حقائق.

الحقيقة الثالثة:

ما يُحزن في واقعنا العربي والإسلامي إشكالية أن الغرب ينظرون إلى الدين الإسلامي من خلال نافذة جماعات الإسلام السياسي، أي الحركات والجماعات السياسية الدينيّة على اختلاف أيديولوجياتها، بيد أن المصيبة الكبرى التي انتهجتها الأحزاب والحركات الدينيّة تكمن في سلوكها السياسي وتسترها بعباءة التديّن، فلم تبقى حيلة أو فعل إجرامي وإرهابي إلا وبررته دينيّا، بمعنى تسييس الدين لأهداف وأغراض دنيئة، تلك الأغراض التي تجاوزت حدود الممارسة الفردية لتصبح طبيعة في عقيدة تشتمل على جملة أفكار شاذة عن الفطرة الإنسانية ومنطق الأشياء. لاسيما ان مثل هذا الخطر يستشري كالوباء الذي ينشط متى وجد البيئة المناسبة لانتشاره خاصة بين الاوساط الجاهلة بالحياة والتي لا تُطيق التعاطي مع متطلبات التقدم الحضاري والمدمنة على تحجرها الكهنوتي الوثني.

وفقا لما تقدم، يجب الفصل بين سياسة الإسلام العظيمة والإسلام السياسي، لأنهما خطان لا يلتقيان أبدا، حيث أن أفكار الإسلام السياسي لا تنمو ولا تنبت ولا تزهر وتثمر في مجتمع مثقف يساوي بين الجميع، ويجد فيه التمايز العقلي طريقا للظهور. ومن هنا ترجع أهمية البحث في هذا الموضوع، والتأكيد على عدم التوفيقية بين سياسة الإسلام والإسلام السياسي، والذي يحاول كاتب المقال أن يقدم من خلالها فك الارتباط بين هذه الثنائية.

 

 


تعليقات

أحدث أقدم