حديث في الفعل المقاوم (1)

مشاهدات



ياسر عبدالعزيز


عندما امتلأت الحافلة بالركاب البيض أوعز السائق للركاب السود أن يقفوا عن مقاعدهم لكي يتمكن البيض من الجلوس، فقد كانت تلك القوانين المطبقة في مونتغمري في ألاباما الأميركية في خمسينيات القرن الماضي، استجاب رجلان ورفضت روزا باركس الاستجابة لهذا التمييز، هددها السائق بالشرطة قبل أن ينفذ تهديده وتعتقل الشرطة واحدة من أهم أيقونات مناهضي الفصل العنصري في الولايات المتحدة في تلك الفترة ، والتي حرك اعتقالها مئات الآلاف من السود والملونين . لا يمكن أن نقول إنها صاحبة السبق في حركة مناهضة التمييز، لكنها أحيت بموقفها البطولي الحركة ، إذ رأى الملايين أنفسهم فيها . بعد ما يقارب الثمانين يوما على العدوان الغاشم على غزة ، لا تزال أميركا تدعم بالسلاح والرجال والمال والمواقف السياسية وبحقها في نقض أي قرار لإيقاف الإبادة الجماعية في القطاع ، لإجهاض أي قرار يوقف العدوان أو حتى يدينه ، بل وتشارك فيه، بحسب روايات البعض، من خلال طياريها، ولعل الموقف الأميركي غير مستغرب، فهي الدولة الأولى التي اعترفت بالكيان الغاصب بعد دقائق من إعلانه ، كما أنها الدولة الأولى التي دعمت بل حاربت من أجل دخول الكيان كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة . 

 

لكن المستغرب ، هو لماذا تفعل أميركا هذا ؟ هل هو نفوذ اللوبي الصهيوني وباقي اللوبيات التي يسيطر عليها الأول، كلوبي السلاح ولوبي الأدوية والعديد من تلك اللوبيات الضاغطة لصالح الاحتلال ؟ في الوهلة الأولى فإن الإجابة ستكون بالإيجاب ، نعم كل هذه اللوبيات ليست ضاغطة فحسب، بل وصانعة للنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، وهنا أحيلكم لكلمة الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو حين سُئل عن الفرق بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري فأجاب :"لا يمكن المقارنة بين حذاءين يرتديهما نفس الشخص .. أميركا لا يحكمها إلا حزب واحد هو الحزب الصهيوني وله جناحان"، وإن كنت لم استوثق من الرواية ، إلا أن شواهدها شاخصة، فبايدن نفسه أكد على صهيونيته ، وقبله الكثير من رؤساء أميركا الذين سبقوه ، لكن أيضا عزيزي القارئ ، ليس هذا هو السبب الحقيقي ، إذ أن الكثير من الأوروبيين يدعمون باستماتة الاحتلال ولم يعلن أحدهم جهارا أنه صهيوني . الحقيقة التي تجمع الغرب بالاحتلال أكبر من ذلك، الحقيقة أنهم جميعا مشتركون في نفس الجريمة، جريمة الاحتلال وما يصحبه من إبادة للبشر والحضارة، ويريدون أن يجملوا وجهها ويغطون قبحها ويضعون لها من القواعد والأعراف والمفاهيم ما يضفي عليها الشرعية ، حتى تتحول من فعل مجرم إلى فعل مقاوم ، بل أكثر من ذلك، يريدون إضفاء صفة الحضارة والتمدن على فعلهم ، مصورين لجماهيرهم أن احتلالهم للعالم ما كان إلا لنشر المدنية والتحضر في عالم متوحش، والكارثة أن الأجيال نشأت على هذه المفاهيم وتنظر إلى شعوبنا من هذا المنظور، ففي خطابه للغرب مع بداية الحرب في غزة وتحديدا بعد السابع من أكتوبر، كان نتنياهو يدعو العالم الغربي لمساندته ودعمه، لأنه يحارب "الهمجية" بالنيابة عن العالم المتحضر. هذا العالم الذي قتل الملايين في كل مكان حل به في آسيا بوسطها وشرقها وأقصاها وفي أفريقيا من شمالها لجنوبها، وفي أميركا الجنوبية ووسطها ، والحقيقة أنهم شركاء في الجريمة ، وشركاء في الطمع بخيرات العالم ، وهم شركاء في سرقة مقدرات البلاد التي مروا بها بل وسرقة مستقبلها .

 

محاولة الظهور بمظهر الراعي للعالم ، قديمة قدم نهم الغرب وشوكته في المنطقة لسفك الدماء وسرقة الخيرات. بل حتى إن قرار اتخاذ وطن للـ"صهاينة" لا اليهود في فلسطين، هو محاولة من تلك الدول الاستعمارية للظهور بمظهر الراعي، أما الظهور بمظهر المحب للسلام والصانع له كان دوما متوازيا مع انتهاك سيادة البلاد ونهب حاضرها ومستقبلها، فنظرة صغيرة لمبادئ ويلسون الأربعة عشر والتي أعلن عنها عام 1918، تجده يتكلم عن علاقات دولية تقوم على السلام العام وترسيخ العدالة والمساواة ووضع إدارة عادلة للمستعمرات تنفذ ما يحقق مصالح سكانها. لاحظ عزيزي القارئ، حتى ويلسون يتحدث عن العدالة ، يتحدث عن عدالة خاصة ، فتلك المبادئ التي يتفاخر بها الأميركيون ظاهرها الرحمة ، للمستعمر وباطنها من خلفها الغطرسة والكبرياء وسمو العرق الأبيض المحتل على باقي شعوب العالم . الرأسمالية بوحشيتها لا تفرق كثيرا عن الشيوعية والاشتراكية في المنهج ، فالمعسكران اختارا أن ينصبوا سيدا، سواء سموه الإقطاعي أو الرأسمالي أو رجل الأعمال، أو أمعنوا في التضليل وسموه الدولة، وهو في الحقيقة مجموعة قيادات الحزب الواحد الذي يستعبد باقي الشعب والشعوب التي احتلوها، والفرق بين المعسكرين أن الأول يعطي مساحة للحرية بعد أن سيطر على أدواتها وأغرق الشعب في ملذاته وأفهمه أن حريته في هذه الملذات مع هامش محسوب للنقد، والثاني أطبق على كل مساحات الحرية والتنفيس، فبقي الأول وهدمت قواعد الثاني، ذلك لأن الإنسان خلق حرا، ولا يمكن له أن يعيش تحت أطر تفرض عليه مأكله وملبسه وماذا يقرأ وماذا يقول، كما وأن الحرية الحقيقية لا تتفق مع هوى المتحكم في مقاليد الحياة، ومن يتصرف فيها كيف يشاء دون اعتبار لإرادة الناس التي لا يريدها، إلا في موسم ترسيخ حكمه أمام صندوق الانتخابات داخل دولته، أو من الأبواق الموالية له في حالة الاحتلال لنفس السبب وإضفاء الشرعية على هذا الاحتلال. وإذا كان الحال هكذا فإن الفعل المقاوم بالتالي هي الممانعة وعدم الرضوخ لإرادة تفرض سواء بالقوة الخشنة كالاحتلال، أو القوى الناعمة بفرض مفاهيم وتمرير سياسات لمصلحة فئة معينة، دون النظر لمصلحة الجماعة البشرية التي تقبض على زمام الأمور فيها هذه الفئة، وهو بالضبط ما فعلته روزا باركس وطبقته، وهو بالضبط مساحة الحديث في المقال القادم إن شاء الله.

تعليقات

أحدث أقدم