مقامة ياسارية الجبل :

مشاهدات

 

صباح الزهيري


في فترة من فترات العمل , وفي مكان ما على هذه الكرة الأرضية , دخلت دورة اختيارية تعطي دروسا مسائية في علم الباراسايكولوجي , الذي يبحث في علم الخوارق, و يشمل دراسة القدرات غير المألوفة التي تسيطر على بعض الأشخاص, كما يهتم بتفسير الإدراك بدون استعمال الحواس الخمس , ويستخدم وسائل علمية كثيرة وعلوما شتى ومنها علم النفس وعلم الفيزياء والبيولوجي بالإضافة للعلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع , ما يهمنا هنا هو موضوع التخاطر ,أو مايعرف بالتليباثي Telepathy وهو نوع من قراءة الأفكار، ويتم عن طريق الاتصال بين عقول الأفراد وذلك بعيدا عن طريق الحواس الخمس أي بدون الحاجة إلى الكلام أو الكتابة أو الإشارة, كما يتم هذا التخاطب من مسافات بعيدة , كان المحاضرين في الدورة خبراء من ألأتحاد السوفياتي , القوا علينا دروسا فتحت أذهاننا على هذا العلم الواسع , والخوارق التي ينتجها من قدرات اللاشعور الأنساني , وأستطعت أن افسر من خلاله كثيرا من المرويات التأريخية التي كانت تشغل الفكر ويصعب تصديقها وتعتبر من الأساطير والخرافات , بحكم  ان الأنسان كائن مسكون بغريزة تفسير الظواهر الكونية من حوله , وكان من الطبيعي الا يستسلم الأنسان ويعترف بجهله , فسعى لأيجاد أسباب علائقية بين الأشياء والظاهرة التي حدثت , وعندما لم يهتد لأسباب منطقية اختلقها , هذه الأسباب المختلقة هي التي انتجت لنا الأساطير التي نعتقدها , ألا اننا أذا أستشرفنا قدرات الباراسايكولوجي او خوارق اللاشعور لكان لنا رأي آخر .

 

لنأخذ مثلا حادثة (يا سارية الجبل) وهي حادثة تاريخية ضمن التراث الإسلامي التي يروي المؤرخون المسلمون أن الحادثة وقعت حوالي عام 645 ميلادية 23 هـ أثناء خلافة عمر بن الخطاب حيث يعتبر الذين يعتقدون بصحة هذه الحادثة في يومنا هذا أنها تشكل مثالاً تاريخياً على القدرة على التخاطر , وقد حدثت للصحابي سارية  بن زنيم الدؤلي الكناني أحد قادة جيوش المسلمين في فتوحات بلاد فارس , وبينما كان يقاتل المشركين على أبواب نهاوند في بلاد الفرس تكاثر عليه الأعداء, وفي نفس اليوم كان الخليفة عمر بن الخطاب يخطب يوم الجمعة على منبر رسول الله في المدينة , فإذا بعمر ينادي بأعلى صوته أثناء خطبته :  (( يا سارية الجبل , الجبل , من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم )) , وبعد انتهاء الخطبة تقدم الناس نحو عمر بن الخطاب وسألوه عن هذا الكلام فقال :  والله ما ألقيت له بالاً, شيءٌ أتى على لساني , ثم قالوا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكان حاضراً : ما هذا الذي يقوله أمير المؤمنين؟ وأين سارية منّا الآن ؟ فقال : « ويحكم دعوا عمر فإنه ما دخل في أمر إلا خرج منه , ثم ما لبث أن تبينت القصة فيما بعد, فقد قدم سارية على عمر في المدينة فقال: ((يا أمير المؤمنين, تكاثر العدو على جنود المسلمين وأصبحنا في خطر عظيم , فسمعت صوتاً ينادي : يا سارية الجبل, الجبل, من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم , عندئذ التجأت بأصحابي إلى سفح جبل واتخذت ذروته درءاً لنا يحمي مؤخرة الجيش , وواجهنا الفرس من جهة واحدة , فما كانت إلا ساعة حتى فتح الله علينا وانتصرنا عليهم)) , وعندما ناقشت ألأستاذ الروسي بها تقبلها واوضح امكانية حدوثها خصوصا لدى ذوي النوايا السليمة الصافية التي تستولد خوارق ومعجزات . وهكذا وعلى شاكلته يحذرون من دعوة الأمّ على ولدها حيث تعتبر من الدعوات المستجابة طالما تصدر من قلب صاف سليم النية , لكن استجابة دعاء الأم على ولدها تكون عند ظلم ولدها لها أو عقوقه لها, قال ابن علان :  ودعوة الوالد على والده أي إذا ظلمه ولو بعقوقه, وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس أن النبي بعث معاذاً إلى اليمن وقال له :  اتق دعوة المظلوم , فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ) رواه البخاري ومسلم) , وروى الطبراني في الحديث : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام , يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين . 

 

وقد قبل ألأستاذ تفسيرنا الباراسايكولوجي لهذه ألأحداث , ومثلها صلاة ألأستسقاء بالمطر ودعوات المؤمنين الصادقة , وكذلك ظواهر الحسد التي حذر النبي منها عندما قال أياكم والحسد فأنه يحرق الحسنات كما تأكل النار الحطب ( رواه ابن داود ) , وهكذا ساعدتني هذه الدورة على قبول التفسيرات الخاصة بأقتراب العلم من خوارق المرويات , وتقبل دعاء ألأمهات التي تشق أعنان السماء , وألأحتساب بقول ( حسبي الله ونعم الوكيل ), ومنها جاء فهم قول أبن العربي : (( ان لله عبادا اذا ارادوا اراد)) . سبب كتابتي هذا النص حوارا جرى مع أحد ألأصدقاء الذي يستبشر برؤية الغراب وهو عكس ألأعتقاد السائد , وعندما بحثت فيه قرأت أن النبي سليمان قال: (( إن البشر يتشاءمون من الغربان, ولكنه قال إن الغربان تنعق للبشر لأنها تحبهم وهي تريد تنبيههم من الأخطار)) , وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن التشاؤم بالغراب والاستدلال بنعابه على الشر والخير من أعمال الجاهلية فأبطل الإسلام ذلك, قال :  وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به فكانوا إذا نعب مرتين قالوا آذن بشر وإذا نعب ثلاثا قالوا آذن بخير فأبطل الإسلام ذلك وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك, وقرأت قول المسرحي الإيرلندي شين (( الغراب هو شخص فتى مرح على الرغم من معطفه الداكن كالحبر)) , علما ان الغراب لعب أدوارًا كثيرة مقدّسة ومدنّسة في الثقافة الإنسانية , فقد كان يعتبر خالق الكون عند الهنود الحمر, ورسولًا للآلهة الوثنية والتوحيدية, ولقد تم ذكره في القرآن الكريم معلّمًا لقابيل كيف يدفن أخاه , وقد وردت أيضًا أخبار عن الغراب في التوراة والإنجيل, وهو متواجدًا كطائر من طيور الجنّة في الحكايات الأنسانية, وهو الدّال على بئر زمزم , وزارع النخلة الأولى في أساطير بلاد ما بين النهرين , لذلك تقول العرب : وجد تمرة الغراب, دلالة على أنّ الغراب أعرف بأجود التمر، أليس هو زارعه ؟ فقد كانت العرب تترك للغراب ناقة محمّلة بالتمر, ويذكر ساكس بأنّه في إنكلترا هناك منصب لسيد الغربان , حيث يحفظ الغراب عرش ملكة بريطانيا , فالأسطورة تقول : إنّ الملك آرثر أصبح غرابًا أعصم ، وفق ما ذكر سرفانتس صاحب دون كيشوت, وقد ارتبط الغراب بالموت, وخاصة في معارك الجيوش, حيث تقتات الغربان على جثث الجنود, ولكن من ناحية أخرى كان الغراب وغيره من الطيور الآكلة للجيف وسيلة للانتقال إلى الحياة الأخرى, وهذا ما نجده في التيبت حيث كانت أجساد الموتى تقطّع وترمى للنسور والغربان , إنّ الموت أحد أكبر معضلات الحياة البشرية وكلّ ما يرتبط به يتحوّل تارة إلى مقدس، وتارة أخرى إلى مدنّس, ولم ينجُ الغراب من التأويلات البشرية, فأصبح الغراب أستاذًا للأحياء ومرشدًا للموتى .

تعليقات

أحدث أقدم