خارطةٌ بينَ طفولتين

مشاهدات



بقلم : عُمَر الحديثي

 


على الخارطة ..

يُشيرُ أبي لي ، وكنتُ صغيراً ،

أُقَلِّبُ أطلَسيَ المدرسيّ

ليرسمَ لي الحُلُمَ النَرجسيّ

وأسألُ ماذا ؟

يَقولُ الوَطَنْ

فأشعرُ دِفئاً يَلفُّ البَدَنْ

وأسألُ ماذا ؟ يقولُ هُنا

ترَعرعَ أجدادُك العُظماء

هُنا في اليمَن  

وهذي بنجدٍ رُبوعُ الوفاء

وفي حضرموتَ يتوهُ الزمَنْ

هنا تترائى الحضارةُ جذلى

بأرضِ الكنانةِ والخُيلاء

هناكَ مراكشُ .. تونسُ .. هذي

رُبى الشامِ والأرزِ أرض النَماء

هنا القدسُ  مهدُ المسيحِ ،

ومعراجُ خاتمةِ الأنبياء

وبغدادُ دارُ السلامِ ،

وحاضِرةُ الأرضِ وسعَ السماء

هُناكَ المُحيطُ .. وهذا الخليجُ .. وتلكَ البِحار

هُنا يا بُنيَّ الحضارةُ تُبنى

وخَيراتُ تُجنى

علومٌ ومجدٌ ، ولا رأسَ يُحنى

وكُلُّ الرجولةِ والكبرياءِ ،

وكُلُّ الخصالِ التي تتمنّى

هُنا تُختزَنْ ..

ويصمتُ ، ثُمَّ يَقولُ : أجَلْ ،

هُنا تُختزَلْ ..

ويَتركني أمتطي صَهَوات الخيال

أجوبُ بحاراً ، وأعدو جِبال

أحطُّ هنا في جنائنِ بابل

أشدُّ الرِحالَ إلى حضرمَوت

أبيتُ بصنعاءَ .. أعبرُ مصرَ .. أمَرُّ بتونسَ

أحلمُ أنَّ

ببيروتَ بيتي قَريبُ المنال

سأُمضي المساءَ على قاسيونْ

على الجَبَلِ العربيِّ الحَنونْ

وأغدو صباحاً إلى القُدسِ فيها

أُصلّي فيومُ غدٍ عيدُنا

وكُلُّ العُمومةِ - قالَ أبي -

هُنا يا بُنيَّ سيَجتمعونْ ..

غداً يا بُنيَّ تَقَرُّ العُيونْ

لنا الملك بعد الإله بُنيَّ

بلادكَ تربتُها كالذهب

وأثمنُ ما صنعَتهُ الحياةُ

أعزُّ الربوعِ ، وأغلى التُرَبْ

سألتُ لماذا ؟ فقالَ أبي :

لقَد جُبِلَت بينَ أيدي الرجالِ

بَنَو مَجدَها عبرَ هذي القُرون

سقَوها دماهُم وماءَ العيون

وذاكَ لَعَمرُكَ آغلى ثَمَنْ

تنَهَّدَ ، واغرَورَقَت عَينُهُ  

وسادَ على شَفتَيهِ السُكونْ  

وحَصحصَ في مُقلتَيهِ الشجَنْ

أليسَ غداً عيدُنا يا أبي ؟

أليسَ غداً هو يومُ الوَطَنْ ؟

وأبناءُ عمّي به يَحفلون ؟

فتَمتمَ ، ثُمَّ مضى بهُدوءٍ :

نعم يا بُنَيَّ .. غَداً سَيَكونْ  !

كبرتُ ..صحوتُ ..

ترجّلتُ من صَهَوات الخيال

رأيتُ الحقيقةَ ،

في كُلِّ يومٍ .. يسودُ التَشتّتُ

يربو التَعَنّتُ .. يَطغى التفتّتُ

يدوي الجنونْ

وللغُرَباءِ بنا مَلعَبٌ

ونحنُ على أرضِنا الخاسِرونْ

كَبرتُ ، وكانَ التمزُّقُ يَعلو

قرأتُ الهوانَ بكُلِّ العُيونْ

وأرضيَ شبراً فشبراً تُباعُ

وأقدارُنا في البلادِ تَهونْ

نُقسّمُ ما قسّمتهُ العِدا

ونصنعُ قُدساً بكُلِّ بلَدْ

نَبيعُ دمانا لمن يشتَهي

نُبيحُ العُقولَ لأبخَسِ حَدْ

وجاءَ غَدٌ ومضى ثُمَّ غَدْ

وأيامُ آلامُها لا تُعَدْ

ولم أرَ أبناءَ عمّي .. على أرضِ أهلي ..

على أيّ رأيٍ .. على أيِّ أمرٍ ..

على أيِّ شأنٍ بها يُجمعونْ

ولم أرَ في القُدسِ منهم أحدْ !

ومرَّ الزمانُ يَحُثُّ الخُطى

وأجسادُنا تحتهُ كالبَدَدْ

تُداسُ ، فتُسحَقُ أو تُمتَطى ..

وذاتَ مساءٍ نظرتُ لإبني

يُقَلِّلبُ أوراقَ أطلَسهِ

تذكّرتُ ما قالهُ لي أبي

وفاءً لهُ وهو في رِمسهِ

أشَرتُ فساءَلَني بارتيابٍ :

تُشيرُ لماذا ؟ فقلتُ الوَطَنْ

هُنا يا بُنيَّ الحضارةُ تُبنى..

فيرمقُني والأسى يَعتريه ..

أقُلتَ الوَطَنْ ؟

أهذا الذي باسمهِ نُستهانُ ،

وكُلُّ شَريفٍ بهِ يُمتَهَن ؟

أجَبتُ وفي الحَلقِ شوكةُ قَهرٍ

وقَلبيَ يُدمى ، وعَقلي يُجَنْ :

هُنا الأرضُ أزهى ..

هُنا جَنَّةُ الكونِ ، أغلى و أبهى

فيَضحَكُ مثلَ البُكا ، ويقول ُ

بنَغمةِ يأسٍ وصَوتِ حَزَنْ :

لقَدْ هجَرَتنا ، ونحنُ رَحَلنا ،

وما عادَ شئٌ برُخصِ الوَطَنْ !

وصارَ رَخيصاً برُخصِ التُراب

فقُلتُ : تَظنُّ التُرابَ رَخيصاً ؟

فأطرقَ مُعتَذراً ليَقولَ :

هفوتُ فعَفوكَ لي يا أبي

قصَدْتُ برُخصِ الدَمِ العَرَبي !!!

تعليقات

أحدث أقدم