بين قطع فرع شجرة وهدم مسجد

مشاهدات




د. محمود خالد المسافر


أن الإنسان يتعرض احيانا كثيرة إلى الاستفزاز العقلي، فتمر عليه شاشة الزمن لتعرض عليه الأحداث فيزيد من فهم بعضها ويعيد تقييم بعضها الآخر، فيما تبقى أخرى عصية على التفسير، وربما تحتاج الى استفزازات اكبر أو أعمق أو اشرس من أجل فهمها. ولا اكتمكم فقد هاجمتني مشاعر عاطفية متضاربة بعد سماعي وقراءتي ومشاهدتي لخبر تهديم مسجد السراجي  في مدينة ابي  الخصيب بمحافظة البصرة العراقية تحت حجة أن المسجد أو مأذنته تحديدا تتجاوز على الشارع العام !! ولم افهم أو استوعب كيف ان شارعا للسيارات ، وعمر اقدم  نوع من هذه الشوارع  في العالم لا يتجاوز المائة والأربعين عاما وهو عمر اكتشاف السيارة من قبل المهندس كارل بنز في مدينة مانهايم وسط غرب المانيا في 29 كانون الثاني (يناير) 1886 ميلادية، يكون قد تجاوز عليه مسجد عمره قرابة الثلاثة قرون، لأن أغلب الآراء تعيد تاريخ بنائه إلى عام 1727 ميلادية ؟.

 

أن الاقدام على هدم مسجد السراجي لا يمثل فقط مخالفة قانونية أو صدمة ثقافية أو استهتارا دينيا أو تحديا طائفيا او تخريبا حضاريا، بل إنه كل ذلك معا .

 

وساروي لكم هنا تجربة شخصية وقصة حقيقية ، وابدأ بالقصة : حضرت في عام 2005 مؤتمرا تربويا ترأسه وزير التربية الشاب هشام الدين تون حسين عون وهو ابن رئيس الوزراء الاسبق حسين عون. لقد كان هشام الدين شخصية صاعدة ومهمة في الحزب الحاكم آنذاك (آمنو)، ويتمتع بكاريزما مميزة . وكنت أنا في الصف الأول مع رؤساء البعثات الدبلوماسية في كوالالمبور عندما كان يلقي كلمته وكان يجلس إلى جانبي سفير إحدى دول الخليج العربي، وأشار في كلمته متفاخرا أن حضارتنا تعود إلى خمسمائة عام، جلب هذا الموضوع انتباه زميلي سفير الدولة الخليجية لأننا كنا نتحدث قبل دخولنا قاعة المؤتمر وفي صالة انتظار كبار الضيوف عن موضوع عمق الحضارة وأثره على الاستمرار وتجاوز الكوارث، وقال لي السفير الخليجي انه طالما ان عمر حضارة العراق هو 7000 عام، فانه وبهذا العمق التاريخي لا يمكن أن يموت أو يختفي، وكان حديثنا طويلا، ولذلك عندما أشار وزير التربية هشام الدين تون حسين عون إلى الخمسمائة عام نبهني السفير الخليجي مشيرا إلى ما كنا نتناقش عنه قبل قليل، فابتسم هو، وانا بادلته الابتسامة. رآني الوزير في هذه اللقطة وظن أننا لا سمح الله كنا نستهزيء بتاريخ نصف الألفية التي ذكرها باعتبار أننا أصحاب الالفيات المتعددة . اكمل الوزير كلمته وعندما كنا نشرب الشاي انضم الينا الوزير ونظر الي موجها كلامه لي قائلا دكتور أنا أعلم أن حضارتكم عمرها أكثر من خمسة آلاف عام، فصححت له وقلت سبعة آلاف عام سعادة الوزير، قال نعم ولكن الأمور بخواتيمها، انظر ماذا حققنا لبلدنا اليوم ونحن أصحاب تاريخ لا يتجاوز خمسمائة عام، وشعرت وكأنه يقارن بين وضع العراق وكان في أوج الاقتتال الطائفي كما يظهر للناس في خارج العراق، وبين ماليزيا ووضعها السياسي والأمني المستقر والتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده . ولم اشأ استفزازه ابدا لانه شخصية محترمة جدا ويمثل حكومة ناجحة جدا في وقتها ونحن كنا وما زلنا في ضيافتها، ولكنني ذكرت بعض الحقائق عن حالة الاستهداف الغربي والصهيوني للعراق . المهم أنني حاولت أن أبين للوزير أنني لم اقصد الاستهانة بتاريخ هذا البلد المحترم وانما كانت إشارات لها علاقة بموضوع سابق . لم يستمر نقاشنا طويلا ولم يكتب لنا أن نناقش هذا الموضوع مرة أخرى بعد ذلك، ولكن لسان حالي كان يقول لو أن لكم جارا كما لدينا لرأيتم العجب العجاب . 

 

أما التجربة التي خضتها شخصيا فانقلها لكم هنا: أردنا إجراء توسعة في مدرستنا الدولية www.ais-kl.edu.my تشمل إنشاء ملعب كرة قدم (سباعي) على مستوى ملاعب الفيفا، ولكن تعارض فرع لشجرة عملاقة في الشارع مع احد أعمدة الإضاءة للملعب فكان لزاما ومن أجل إنجاز العمل أن نقوم بقطع الفرع من تلك الشجرة ، ولما كنا نعرف مسبقا أهمية وقدسية الأشجار في ماليزيا طلبت من السكرتيرة أن تتصل ببلدية العاصمة للتأكد من مسألة السماح لنا بقطع ذلك الفرع المشاغب . فكان الجواب رفضا قاطعا، مبررين ذلك الرفض أن أية عملية قطع لفرع أو غصن لشجرة في الشارع ينبغي أن يتم من خلال الشركة الخاصة والمختصة المتعاقدة مع البلدية . كنا نتأمل أن يقوم أحد العاملين في المدرسة بقطع ذلك الفرع من أجل أن نواصل العمل في الملعب والذي تأخر بسبب ذلك الفرع من الشجرة المحصنة بقوانين الدولة ، ولكن البلدية بددت املنا ووضعتنا أمام حالتين مضرتين بالمشروع ، أولها التاخير، وثانيهما أننا لا نعلم كم ستأخذ منا هذه الشركة الخاصة، لانها شركة متعاقدة مع البلدية كما ذكرنا آنفا . انتظرنا اسبوعين لتأتينا الشركة المختصة، وسألناهم لماذا لم تسمح لنا البلدية بقطع الفرع الا من خلالكم طالما أن قطع الفرع سهل وليس صعبا كما في حالة قطع الشجرة، فأجابونا، إن قطع الفرع ينبغي أن يتم بطريقة لا تؤثر على اتجاه نمو الشجرة التي قد تسقط مستقبلا إذا ما كان قطع الفرع خاطئا وفي غير محله . وبالمناسبة فإن البلدية تكفلت بكل التكاليف. تذكرت حجم وكم العشوائية في البناء والهدم والقطع والتدمير الذي يشهده بلدنا في ظل إدارة الفوضى التي قادتها الولايات المتحدة في العراق ثم سلمت العراق بادارته الفوضوية إلى إيران في ظل حكومته الحاقدة على كل ما هو عراقي وعربي . لتصل الحال إلى تهديم وتدمير آثارنا ومواقعنا التاريخية والدينية والثقافية. لم يكن مسجد السراجي اول الضحايا ولن يكون الأخير، بل سبقه مسجد النوري الكبير ذي المنارة الحدباء ، وقبله الكثير من المساجد التي اسقط مناراتها وفجرتها قوى الطائقية بكل اتجاهاتها. ولن يتوقف هذا النزيف التراثي والأثري طالما أن العراق اسير بيد الحاقدين عليه وعلى إنجازاته التاريخية العظيمة. ولن يفكر العالم ابدا بكل قواه الدولية بمحاسبة هؤلاء المجرمين الهدامين، لأن الجيران والقوى الإقليمية والدولية لا تريد عراقنا قويا سيدا قائدا. ولذلك فإن العراق وكل آثاره وتاريخه ومنجزاته متعلق بشوارب الرجال من ابنائه الاصلاء وبچرغد الماجدات امهات واخوات وزوجات وبنات الرجال.

تعليقات

أحدث أقدم