عدالة

مشاهدات



بقلم  تبر العرباوي 


أمطرَت السّماءُ ولم تَخصُب الأرض , وأمطرَت فلا اهتزّت ولا ربت , وأمطرَت فعلاَ التُّرابُ كأنّما يهرُبُ مُتنصّلاً , ليصعَدَ إلى السّماء , فيظفرَ بنصيبه من غيثهَا وأمطرت فتشقّقت . استاءَ النّاسُ … كانت الأمطارُ تُبلّلُنا فلما لا تصل إلى الأرض , وإن وَصَلت إليها , فـأينَ آثارُها ؟ قالَ حكيمٌ … إنّها تُمطرُ مطرين … فاندهشوا ولم يفهَموا , فاستطردَ :


– مطرٌ للبشَر , تتلقّاهُ الأرضُ فتوصلُهُ إليهم , ومطرٌ للأرض يتلقّاهُ البشرُ ولا يوصلونَهُ إليهَا , فليَنالوا ما كسبَت أيديهم .

 

لم يَفهم أحدٌ ما قالَ الحكيم , اعتادوا فقط أن يُردّدوا ما يُعجبُهم من قوله , أو يُردّدَ بعضُهم ما يُريدُ أن يطعنهُ به في حكمته ويستدلَّ به على خرفه و خفّة عقله . شَقُّوا بطنَ الأرض , غاصوا في تجاويف شرايينها واستنفدوا دماءها , غيّروا قَسماتهَا , عبرَ كُلّ الأصقاع وما أفلَحوا . كلنَ الحكيمُ يمرُّ بهم طيفًا … صوتًا خفيفًا … رُعودًا , هزيمًا ويقولُ ساخرًا رُبّما أو راثيًا … فقط أوصلوا الأمانة وهيَ تكفيكم عناءَ الحفر .


*********


تسارعَ نسقُ التّطوّر على كوكب الأرض … أٌثقلَ كاهلُ الإنسان ولم يعُد يمتلكُ شيئًا من وقته … الرّكضُ المُستمرُّ وراءَ لُقمة العيش وتوفير أسباب الرّاحة الشّخصيّة , ما عادَ ليترُكَ مجالاً للتّفكير في غيره , فانحلّت العلاقاتُ الأسَريّةُ وانعَدَمت الاجتماعيّةُ أو اتّخذت أشكالاً أُخرى تَحكُمُها المصالحُ المادّيّة … في مدينة ما من هذا العالم نأى بهَا موقعُها الجبليُّ وطقسُها البارد عن الأخذ بكُلّ أسباب الحضارة ولكنّ التّكنولوجيا الجاهزَة وصلتهَا حتمًا , فَفتحت ذراعيهَا لنمط العيش المُستورد … لم يكُن سُكّانُها كُثُرًا … ضاقَ الشّبابُ منهم ذرعًا بالشّيوخ والعجائز الذينَ ما فتئوا يُذكّرونَهم بماض تعيس وعادات بائدة , فتَخلّوا عنهم إلى مأوى العجزة … 

 

التّطوّر المحمومُ , ينتهكُ كلّ شيء .

الإنسانُ الذي صنَعهُ ما عادَ قادرًا على إيقافه , أسلحةٌ فتّاكة , قنابلُ ذرّيّة جُرثوميّة … هيدروجينيّة والأرض صامتةٌ , ترى كيفَ يخرجُ من جوفها ما يفتكُ بأبنائها … اليورانيوم , .. صَرخت بهم مرارًا لا تستخرجُوهُ إنّهُ طاقتي التي تُساعدُني على الدّوران حولَ قُرص الشّمس كي تستمرَّ الحياة . فما أصغوا لها ..لوّثوا جوّها .. أسالوا أنهارًا من الدّماء .. داسَ الأقوياءُ على الضُّعفاء .. شرّعوا الظّلمَ واستباحوا حُرمات الحياة .. الأرض ما عادت تُطيقُ عُقوقَهم . توقّفت لحظةً عن الدّوران , اقشعرّت , فاكفهرّ الجوُّ وفهمت الشّمس الرّسالة فحَجبت أشعّتَها . تَصايحَ ملياراتُ البشر في كُلّ الأصقاع … زلزلَ صًراخُهم الأرضَ , أسرعوا إلى مٌعدّاتهم وتقنياتهم لكنّهم وقَفوا عاجزين . ماذا يُمكنُ للتكنولوجيا أن تفعلَ إذا توقّفت الأرضُ عن الدّوران , لم يُفكّر أحَدُهم أبدًا في صُنع مُحرّك للأرض وحتّى إن فَكَّرَ , هل يُمكن ..؟ وأشعّة الشمس كيف تُستجلب … 

 

كُلّ عناصر الطّبيعة اتّحدت :

زمجَرَت السّماءُ مُغضبةً وقذفتْ الصّواعق , عصفت الرّيحُ شرسةً … وتحرّك الكوكب المُضطهدُ في رعدة , كأنّما أثرُ حُمّى … ارتعدَت الأرضُ وزلزلَت وكشّرت عن شقوق , وجُروف وهاويات سحيقة وابتلعت أثقالها وارتعدت أخرى , فانضمّت وانغلقت كُلّ الشّقوق , فبزغت الشّمسُ وهبَّ النّسيمُ عليلاً , كأنّما يُضمّدان جراحَ أمّ يئست ممن أنجبت , فابتلعهُ … أعادتهُ إلى جوفها … في تلكَ المدينة , ابتلعت الأرضُ كُلّ شيء عدا العَجَزة وثلاثة أزواج من الشّباب دحرجتهُم بعيدًا عن موقع المدينة … هُم أصابَهُم الدّوارُ في البدء ثُمّ الإغماء … وحينَ استفاقوا , كانَ وجهُ الأرض قد تغيّرَ تمامًا عادت صبيّةً نَظرة … الأمطارُ تهطلُ والشّمس بازغة , حانية … العُشبُ ينمو ويطول مُباشرةً في نفس اليوم .. الشّيوخُ والعجائزُ حينَ استفاقوا وحَمَدوا اللّه على نجاتهم ممّا أسموهُ قارعة …أحَسّوا بالحُزن ولكن , من يبكونَ ؟

 

لقد ذهب الكُلّ… كفكفوا دُموعهُم وانتشروا يُشاهدونَ ما أسموهُ مُعجزة .. ذُهلوا .. لم يرَوا في حياتهم خصبًا كذاكَ الخصب . انتعشت صحّتُهم , فشَمّروا عن سواعد الجدّ … يحصدونَ القمح , يَنحتونَ الحجارة لطحنه … سوّت العجائزُ غرابيلَ من ملابسهنّ , جلبنَ الطّينَ وصَنعنَ القُدورَ والتّنانيرَ , وما هيَ إلاّ بضعةُ أيّام حتّى استَقرّت حياتُهم … بنى الشُّيوخُ أكواخا … وقرّروا الزّواج .. هيَ سُنّةُ الحياة و الألفةُ الأولى للبشر فلمَ لا يتزوّجون ؟ ذَهبَ الشّبابُ بألسنتهم السّليطة وانتقاداتهم وتَسَلُّطهم عليهم , فلمَ لا يفعلون ؟ تَكاثرت الحيواناتُ وانسابت تَمرحُ , فَقد ذهبَ البشرُ الذين يُعيقونَها عن الحَركة بحُرّيّة … الشّيوخُ والعجائز , قَرّروا ألا يأخُذوا منها سوى الصّوف والحليب وألاّ يُسرفوا في لُحومها .غَدت وُجوهُهم نظرةً و استقامَ انحناءُ ظُهورهم , تَعاونوا على غسل الصّوف وتنجيده و غزله و صنعوا لأنفسهم الأغطيةَ و الفُرُشَ و الملابس … وانتعَشوا لروائح الخُبز المنبعثة من التّنانير . أمّا أولائكَ الشّباب … فَما أحسنوا صُنعَ شيء , تذكّروا جدّاتهم وجُدودهم الذين كانوا يُحسنونَ صُنعَ كُلّ شيء , أسفوا  إذ  لم يَتَعلّموا منهم شيئًا … وقَفوا عاجزين … بَحثوا عن كُهوف أووا إليها وترصّدوا الحيوانات , فَفتكوا ببعضها , لأكل لُحومها ولبس جُلودها … بعدَما تمزّقت الثّيابُ التي كانوا يلبسونَها .. لم يكونوا سُعداء أبدًا … واعتَبروا الذين ماتوا من أصحاب الحظّ السّعيد … جابوا المنطقةَ بحثًا عن سيّارة … أو بَقايا مُعلّبات يأكُلونَها , لكنّها كانت قد ابتلعت كلّ شيء .. بكوا وانتَحبوا , ندَبوا حظّهُم …فكّروا بالانتحار , لكنّ إحساسا بالمسؤوليّة عن تواصل الجنس البشريّ مَنَعهم … أينَ الملابسُ الدّافئةُ الرّفيعةُ والأحذية المُريحة والأرائك الوثيرة وأجهزة التّلفزيون والهاتف ؟

 

لكن بمن يتّصلون ؟ .. أسَرتهم ذكرى الحياة الماضية وحالت اختصاصاتُهم السّالفة دونَ تأقلُمهم مع الحياة الجديدة . فأحدُ الشّباب كان يشتغلُ بالمعلوماتيّة , الثّاني مُهندس كهرباء والثّالث بتدريس الفلسفة وأمّا الشّابّات فإحداهُنّ كانت حلاّقة والثّانية مُضيفة طيران والثّالثة طبيبة … قَرّروا أن يَتزوّجوا وبما أنّهم لم يكونوا يُكنّونَ لبعضهم أيّة عواطف فقد احتكَموا إلى القُرعة … لم تصلُح معارفهم لشيء في حياتهم الجديدة , غيرَ أنّ أستاذ الفلسفة ظلَّ يُزعجُهم بتفسير النّظريّات و شرح المقولات , ممّا اضطرّهُم لضربه ضربًا مُبرحًا لإفهامه أنَّ الفصلَ ليس , فصلَ فلسفة , وأنّ عليه إن أرادَ أن يُوظّفَها في خدمة الظّرف الجديد , أن يفهمَ أوّلاً سببَ ما آلوا إليه شرطَ أن لا يُعلمَهم  به . فقد ارتدّت الحياةُ عندهم إلى نُقطة الصّفر ممّا عنى لهُم خطأَ كُل ّ الحياة الماضية , رُغمَ جمالها , كما عزَوا تذكُّرَهم لاختصاصاتهم مُجرّد شاهد على فشلها . ملّوا كُهوفهم , فقرّروا الارتحال والتّنقّل لتغيير المكان , الذي غدا قذرًا من سوء استعمالهم لهُ وطمعًا  في العُثور على بعض آثار الحياة الماضية … ظلّوا يمشونَ صامتين أيّامًا , سوى تلفّظهم بعض الكلمات البسيطة للضّرورة أو الاستعاضة عنها بحركات .

 

وولوَل أُستاذُ الفلسفة :

– ستنسون الكَلامَ إذا واصلتُم هذا السّلوك .. حافظوا عل اللّغة, تَعلّموا من المضيفة لغات أخرى وأنا أدرّسُكم الفلسفة والطّبيبة … فلكمَهُ مُهندس الكمبيوتر على فمه :

– اخرس أيُّها الحقير ما أفسَدَ الحياة الماضية سوى أمثالك , ثٌمّ من قال أنّكَ تفهمُ شيئًا , و لتذهب كُلّ اللغات إلى الجحيم , من سنُخاطب بها .. ؟

 

وعادوا إلى صمتهم , فصرخَ أستاذ الفلسفة :

– لقد أخذت الطّبيعةٌ كُلّ مُعدّاتكم وتركت عقلي وعقولَكم .. وكُلّ ما في عُقولكم لا تستطيعونَ نقلهٌ لأحد , إذ أنّهُ لا يُنقلُ إلاّ بتلكَ المُعدّات , أمّا ما في عقلي , فيُنقلُ مُباشرةً .

– أفلا يعني هذا ضرورة نقله إليكم ؟ فلم يَرُدّ عليه أحد .

 

وفيما هُم يستريحونَ على ربوة , رأوا نارًا :

– فصرخوا نار , بشر , نار , بشر .

– لا يوقدُ النّارَ سوى البشر , واندَفعوا يركُضونَ نحوَها .

فزعَ الشّيوخُ والعجائز وهم يسمعون صُراخًا يدنو منهم , خَرجوا من أكواخهم وأضافوا حطبًا على النّار .

– لا يصرُخُ هذا الصّراخ المُزعج سوى البشر .

 

ووصلَ الشّبابُ لاهثينَ فأحسَن الشّيوخ استقبالهم و ابتسَمَ أحدُهم و قال  :

– الحمدُ للّه , كُنتُ أعرفُ أنّ الحياة ستحفظُ بُذورَ البشر كما حفظت بُذورَ غيرهم من الكائنات .

– اللّهم اجعلها ذٌرّيّة صالحة .

استقرَّ الشّبابُ في أكواخ الشّيوخ , لكنّهم لم يُكلّفوا أنفُسهم تعلُّم شيء منهم .

 

قالت إحدى العجائز :

– عجبًا ؟ ألم يكُن الدّرسُ كافيًا ؟

– تعالينَ يا بنات تعلّمنَ غربلة القمح وإعداد الخبز .

 

لكنّهُنّ رفضنَ فوُجود بشر آخرين عزّز عندهُنّ , الإحساس بانتماءاتهنّ  السّابقة .. ضحكت الطّبيبة ساخرةً :

– طبيبة و أنحني على التّنّور و أتنفّسُ الدّخان .


كان وُجود الشّيوخ و العجائز بالنّسبة إليهم , دليلاً على وجود آخرين وبالتّالي احتفاظهم بمراكزهم الاجتماعيّة وتزعزعَ شَكّهم في فساد الأنماط التي كانوا يعيشون عليها فحَلُموا باستعادتها .

وكأنّ قُدومهُم كان شؤمًا على مُضيفيهم , فقد بَدأ الشّيوخ والعجائزُ يموتونَ دونما ألم أو مرض .

 

الشّيخ الأخير أحسّ باقتراب نهايته فأرادَ أن يُفصحَ عن شيء في نفسه , فناداهم :

– تعالوا يا أبنائي , اعلموا أنّنا الوحيدون على هذا الكوكب وحدّقَ في الفراغ وقالَ , سيأتي مُؤرّخونَ في العُصور القادمة ليَتحدّثوا عن عُزلة الإنسان الأوّل وصراعه مع الطّبيعة مرّةً أُخرى , لأنّها لا تترُكُ الإنسان أعزل , هوَ الذي يصنعُ عُزلتهُ وضعفه ثُمّ إليهم وقالَ :

 

– حاولوا أن تتعلّموا من الحيوان و فاضت روحُهُ .




تعليقات

أحدث أقدم