العبرة والاعتبار في قضية خلف أبن أمين من الاساطير الشعبية البغدادية

مشاهدات


ضرغام الدباغ

 

يقال أن شخصاً كان عاطلاً عن العمل في بغداد (ربما في الثلاثينات من القرن الماضي) يدعي خلف أبن أمين . والبطالة تسحب خلفها الفقر، ومتاعب عائلية ونفسية أخرى، ومن لا يحسن التصرف حيال هذه المشكلة، تتضاعف لديه تبعاتها، وتكون لها مداخل لمشكلات وعقد نفسية. وقد يلجأ للخمر والمخدرات كمهرب من الأزمة التي يعيشها. ثم أن خلف أبن أمين هذا، كان يتوهم في نفسه أنه شجاع، ويحاول أن يفعل ما يقوم به الشقاوات ممن يتصرفون بقوتهم البدنية (وليس العقلية) بما يجعل الناس يهابونهم ،والمهابة والخوف هو غير الاحترام والتقدير ...! الحاصل، وهذا البائس (خلف أبن أمين) هو في الواقع لم يكن شجاعاً ليخاف منه الناس، ولم يكن محترما ليحترموه .... لم يكن شيئاً البتة ... فما العمل ...؟ وحين تحدث مشكلة في بغداد، سرقة، تسليب، أو جريمة قتل ... يأتي خلف أبن أمين إلى المقهى وهو يتلفت، ويجلس في طرف المقهى، أو في الزاوية، ويسأل الساقي أو الجالسين همساً " خو ما سألوا عني الشرطة "، ومن يسمعه يداري في نفسه ضحكة وبعضهم يبتسم، ولكن الأكثرية يضحكون سراً أو علانية، فهم لا يريدون إلحاق المزيد من الأذى النفسي بخلف أبن أمين  الذي يعاني من عقدة التفاهة، فيمارس الشقاوة في خياله موهماً نفسه بأنه شيئ ... أي شيئ ... تسأل عنه الناس، أو بذلك يستجدي الاحترام ...!

 

وحين ضاقت السبل بخلف أبن أمين، وشاعت سوالفه بين الناس وبدأ يعاني من عذاب التفاهة، فكر وقرر أن يصعد من أسلوب الإيهام والاستلهام ، حتى لو كان في ذلك شيء من التعب، وحتى المجازفة وحين حدثت سرقة بيت شاكر أفندي، الكاتب في البلدية، في أحدى المحلات الشعبية ، فذهب إلى ذلك المكان وقذف بمداسه (المداس هي الكيوه باللهجة البغدادية، أو نعال مغلق)، إلى سطح بيت شاكر افندي الذي تعرض للسرقة، حيث أن مداسه معروف لدى الناس. وذهب للمقهي وهو يعتقد أن الشرطة سيبحثون عنه ويلقون القبض عليه حتماً، وقد يحالفه الحظ ويجدوه في المقهي ويأخذونه مخفوراً أمام الكبار والصغار ... ويا فرحتنا .. أخير صرت شيئاً مهماً وحديث الناس .. ذهب خلف ابن أمين للمقهى فرحا مبتهجاً بذكائه يبتسم في داخله ، وهو يبذل جهداً في تمثيل شخصية البطل المطارد، وجلس هذه المرة في مكان اختاره بعناية ليكون مسرح الحدث المقبل، سيوقفونه الشرطة، وقد يحاول التنمر ورفض وضع القيود في يديه (في حين يطير قلبه فرحا لوضع القيد في يديه) ليزيد في عمق دراما المشهد، ولا مانع أن يبات ليلة في الموقف، أو ليلتين ... ولكن في الأخير سيطلق الشرطة سراحه حين يجدون السارق البطل الحقيقي، ولكن لا يهم، سيكون لديه أن يجعل من اليومين سنتين، رحلة سندبادية ... وسيحكي عشرات الحكايات الخرافية مما جرى له في التوقيف، ويملحها بالكذب بالقول أنه تعرض للتعذيب، ويغمز للسامعين بعبارات مبهمة أنه بصموده وعدم اعترافه أفلت من أيدي الشرطة ...!

 

جلس خلف أبن أمين بعد أن سأل الساقي وبعض من يجلس بقربه (خوما سألوا عني الشرطة ..؟) وهو يرى أمنياته باتت قريبة جداً ... أخيراً سأصبح شيئاً ... وهؤلاء الشبان العابثين الذي كانوا يضحكون ويسخرون مني ... سألقنهم درساً كبيراً، سأكبر في نواظرهم ... وسأظهر أمامهم بمظهر الشقاوة، ويتباهون بأنهم يعرفوني ... والبطل هو اللقب الذي أستحقه ... بطل .. نعم أنا بطل هذه المحلة وكل المحلات ... قولاً وفعلاً ... وحين طلب من الساقي أن يجلب له الشاي ، فعل ذلك بصوت أجش يليق بأبطال  الشقاوات " جيب شاي يا ولد ...". وقبل أي يأتيه بالشاي، حدثت الواقعة ... كأن جداراً سقط على رأسه ... وإذا بمداسه المميز بين يدي مفوض الشرطة ينهال به ضرباً على رأسه .... ومعها  قارص الكلام والألفاظ " ولك سرسري مخنث ... لو تموت ما أحبسك " ثم وضع المداس على هامته .... لم يضيف المفوض كلمة زائدة أخرى فمضى وسط قهقهات الجالسين في المقهى ممن شهدوا هذه المسرحية التي تحولت إلى دراما كوميدي ..... وهكذا انهارت أحلام خلف أبن أمين ... بطريقة كارثية ... وبدل من أن يصبح بطل الموسم وكل المواسم ، صار مسخرة البلد وكل البلدات، بل صار مثلاً يضرب به بالسخافة والمنفخة، والتمثيليات .. حتى أن الناس صاروا يلقبون من يمثل دور البطل المقتدر  " خلي يولي .. لا تجاوبوه .. دا يتخيلف علينا ". 

 

منذ الطفولة ونحن نسمع هذه القصة / الحكاية ( خلف أبن أمين ) ولكن خلف أبن أمين يعيش بيننا ... ومثله ربما كثيرون في مجتمعنا المعاصر، خلف أبن أمين ... خلف الكثير من أمثاله ... وهم بيننا يحاولون أن يتخيلفوا برؤوسنا ... يا الله عيني يا الله... تخيلف علينا ...تدلل، البلد .. العراق العظيم كله محتل، هي ظلت عليك .. عضنتا كلاب (حاشا الكلاب) وضباع، وبنات آوى وثعالب .. أنت هم خطية ... يجوز أنك تعتقد تريد تخلص نفسك من مصيبة أو عقدة نفسية مريرة، ووجدت لحمنا أمامك سهل العض والاكل في هذا اليوم المشؤوم .. ظلت عليك ....! عض يابة عض ....! "

 


 

تعليقات

أحدث أقدم