مقامات الفساد اللبنانية

مشاهدات



سناء الجاك
كاتبة وصحافية لبنانية


فقط في لبنان، تقتحم جماعة طائفية وحزبية المطار الدولي، بمعزل عن القوانين المرعية لحرمته وأمنه بغية استقبال مالك أحد المصارف بعد إخلاء سبيله في فرنسا بكفالة والسماح له بالعودة إلى وطنه شرط متابعة محاكمته ، فهو مشتبه به متروك رهن التحقيق، بموجب كفالة ماليّة . وكان المتهم قد أوقف لحظة وصوله إلى باريس وصودر جواز سفره ، وذلك بناء على مضبطة اتهام القضاء الفرنسي له تنص على أنه شريك "بتشكيل عصابة إجرامية بهدف القيام خصوصاً باختلاس أموال عامّة من قبل موظف عمومي على حساب الدولة اللبنانية وخيانة الأمانة". مهرجان الاستقبال بدا نافرا وصادما، في غياب تام للدولة ومؤسساتها القضائية . ففي حين كان يفترض وجود قوى أمنية في المطار تقتاده إلى التحقيق بقرار قضائي لتورطه في جرائم موصوفة تكاد تكون ثابتة بالأدلة والبراهين، إلا أن العكس هو ما حصل، وعوضا عن ذلك ، احتشدت جماهير غفيرة وغفورة حيال نهب أموالها في المصارف ، وهللت للرجل المسنود إلى منظومة فساد راسخة وقوية . 

 

والمفارقة أن بعض المشاركين حمل العلم اللبناني ملوِّحا به، وكأن التلويح يحمل دلالاته التي تكرس مقامات هذا الفساد، الذي ينخر عظام دولتهم . وكأن مشهد الاستقبال يذكرنا بمشاهد مماثلة في الأفلام المصرية القديمة، عندما كان "الفتوة" يخرج من السجن بعراضات وطبل ومزمار .. و"رقصني يا جدع عالواحدة ونص"، وصولا إلى حارته الشعبية ومحليته الضيقة .. ولعل المشهد ليس حكرا على لبنان، فهو متوفر في كثير من دول العالم الثالث، حيث يسرح الفاسدون ويمرحون ويحتلون المناصب العليا  . لكن ما يسبب الصدمة هو تفويت فرصة خروج قضايا الفساد إلى قضاء المجتمع الدولي، لتتم تسمية المتهمين بأسمائهم، فلا يصار إلى تجهيلهم، كما كانت الصيغة التي تكشف كل أوراق هذه القضايا وتتحفظ على المرتكب، وتكتفي بلعن الفساد ولعن أشباحه كحالة وليس كجرم يرتكبه أشخاص، وأقصى الممكن حياله هو إثارة الملفات لتنفيس الغضب الشعبي، ومن ثم سحبها من التداول . ففي الأمر ما يشي تهاون ورفض لإمساك طرف خيط يؤدي إلى انهيار منظومة الفاسدين، ويمهد للإطاحة بأصحاب المصالح المتساكنين تحت خيمة الود الانتفاعي، مهما اشتد وطيس معارك الخلافات السياسية فيما بينهم، ذلك أنهم أوفياء لقواعد الفساد والافساد لبنانيا، وربما عالميا، التي تنص على أنه عمل جماعي يتطلب مشاركة وتوثيق صلات، وتحديدا بين أفراد وجماعات مصادر قوتهم هي في كونهم فوق المحاسبة، ولديهم مهارات نادرة تضعهم في خانة المحترفين الذين يجيدون التلاعب بالقانون .

 

بالتالي، فإن مشهد الاستقبال والابتسامة العريضة للمتهم المحتضن من مرجعيته السياسية والطائفية استفزازي مع امتلاء وجهه بالاطمئنان والاحتقار لكل من اتهمه، وكأنه واثق من أن لديه القدرة من خلال علاقاته والتوازنات الدقيقة للمنظومة ، على التملص من الأدلة، لأن هناك من ستولى رميها في سلة مهملات الضمائر الميتة للمسؤولين المتشابكة مصالحهم سياسيا وأمنيا وقضائيا، بما يحول دون المساءلة والاقتصاص العادل منه ومن زملائه المتورطين معه في سرقة المال العام وإفلاس البلد وحرمان الناس من حقوقهم ومن أمانهم المعيشي ومن الحلم بمستقبل طبيعي لهم ولأولادهم . هذا ما تفرضه الواقعية والتجارب، مع وعي بأن الدول الكبرى تتوخى الربح من كل ملف تطرحه، ولا تتحرك وفق مفاهيم أخلاقية وقانونية . واللبنانيون أكثر من غيرهم يعرفون طعم الخيبة من مجتمع دولي حاضر ليطوي ملفات وصلت إلى خواتيمها، وذلك لأن مصلحة هذه الدول فرضت أولوياتها، على حساب العدالة والنزاهة والشفافية، لتبقى قضايا أكبر وأخطر مجهولة .. فما خفي من مقامات الفساد كان أعظم.. وربما سيبقى .

 

المصدر : عربي-sky-news

تعليقات

أحدث أقدم