طعام الفقراء

مشاهدات



ضرغام الدباغ

 

من خلال إقامتي في عدد من الدول ، العربية أو الأوربية ، تبين لي أن معظم فقراء الشعوب، لهم أطعمتهم الخاصة وهي تتكون أساساً من مواد ذات ثمن زهيد، أو على أساس بساطة تكاليف الوجبة إما من أطعمة بائتة ، أو من بقايا المواد المستخدمة في طبخات سابقة ، أو أنهم يجمعون المواد الزهيدة الثمن ويحفظونها للأيام الصعبة بما نطلق عليه في العراق  وفي الأقطار العربية "المونة".

 

ففي دمشق / الشام ،  يستعد الناس ، فقراءهم وحتى اغنيائهم منذ بداية الخريف، حيث تهبط أسعار الفواكه ولا سيما من يزرع في محيط دمشق (الغوطة) من أشجار فواكه : المشمش، التفاح، العرموط /الكمثرى ، البرقوق وغيرها، ولعمل المربيات في المنازل، وكذلك حفظ اللبنة، والزيتون، ومكدوس الباذنجان، والمخلل، والمرأة السورية الشاطرة على الأغلب، تبرع في اختراع مأكولات لا تكلف الكثير، مثل الحمص بطحينة، والمتبل (بابا غنوج)، وهذه انتشرت في معظم الأقطار العربية، واكتشفت المرأة السورية أكلة يطلقون عليها " طباخ روحو " وتتكون مما تبقى من حفنة بامية من طبخة سابقة، أو حبة واحدة من الباذنجان ، وبضع حبات بطاطا، وحبات طماطة، وحبة شجر/كوسا ، وبدلاً من رميها في النفايات، تتحول ألى وجبة كاملة ولذيذة، وضرب من ضروب التدبير المنزلي . ومن يذهب لأسبانيا يلاحظ أن هناك وجبة لذيذة يسمونها " باييلا/ Paella " وهي خليط من خضروات مختلفة ، ومن يتذكر الأكلة السورية طبخ روحو، يفاجأ أن الاكلة الاسبانية هي عربية الأصل من أيام الأندلس وأسمها العربية " بقايا " أي ما تبقى من طبخات سابقة ...! وفي المانيا فوجئت بوجود أكلة لذيذة قائمة على مبدأ " بقايا من طبخات سابقة " والآكلة الألمانية تسمى (Eintopf)  ومعناها بالعربي " قدر واحد " وهي أيضا تجميع مواد غذائية من طبخات سابقة، توضع في قدر واحد ومن هنا جاءت التسمية .

 

وكل هذه الوجبات يجمع بينها شيء واحد هي أنها أكلات لفقراء، هذه الشعوب، وصحيح أن الحاجة أم الاختراعات كما يقال، ولكن الفقراء دائما مبدعون، والأثرياء الأغنياء هم غير مبدعون، لأنعدام دوافع الإبداع، فالمال موجود وتحت متناول اليد، بلا جهد فلماذا التعب والإجهاد وصرف الوقت، والمال موجود ويوفر لنا كل شيء . ولا يقتصر الأمر على الغذاء ، بل وعلى الإبداع الفني وغالبا الأدبي والعلمي أيضاً، فمعظم المبدعين في هذه المجالات هم من المنحدرين من فئات فقرة وكادحة ، ونادرا ما تجد مبدعاً من فئات ثرية ، لأن أفقه ضيق ولا يحلم ولا يتخيل ...! نحن نأكل من أيدي الكادحين، ونسكن في بيوت هم عمروها ، ونرتدي ثياب هم نسجوها، ونغني أغاني هم ألفوها ولحنوها ... فهم مختصون بإسعادنا، وتثقيفنا، وتوفير الراحة لنا. أما الاستعماريين والامبرياليين والعولميين ، الأثرياء الأغنياء ، فهم وصنائعهم من الطغاة الديكتاتوريين، فهم سبب احزاننا واتراحنا . 

 

المجد للكادحين ...

وسحقا للظالمين من كل الأصناف أجمعين .

تعليقات

أحدث أقدم