هل من قراءة صينية جديدة لخرائط العالم؟

مشاهدات

 


محمد قواص
كاتب سياسي لبناني



تعتبر الصين جزيرة تايوان قطعة من أراضيها وجزءا من سيادتها. ويقرّ العالم للصين بأنها "واحدة". وتبدّل الموقف الغربي، منذ انفتاح واشنطن على بكين في السبعينات، وسحبت العواصم اعترافها بالصين الوطنية التي كان يقودها تشانغ كاي تشيك لصالح الصين الشعبية التي كان يقودها ماو تسي تونغ . يعترف الغرب بـ "الصين الواحدة" لكنه يختلف كثيرا مع بكين في مسألة منح الجزيرة وضعها الخاص المتناسل من ثقافة انتمائها تاريخياً إلى البيئة الديمقراطية الليبرالية. يقود حكومة تايبيه الحزب التقدمي الديمقراطي الذي يعتبر تايوان دولة مستقلة ويرفض خطط بكين لدمج الجزيرة بالصين التي يقودها الحزب الشيوعي بحيث يهيمن البرّ على الجزيرة وفق سيادة كاملة غير منقوصة شأنها في ذلك شأن بقية المناطق الصينية . بالمقابل فإن لروسيا بقيادة فلاديمير بوتين رأي في مسألة تايوان لا يحيد عن رأي الصين بقيادة شي جين بينغ . وحين التقى الزعيمان على هامش الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 4 فبراير 2022، صدر بيان مشترك من 5 آلاف كلمة أسّس لحلف جديد بين البلدين وأثارت سطوره اهتمام العواصم ، لا سيما الغربية، في العالم . في البيان كرر الطرف الروسي موقفه التقليدي بدعم حقّ الصين بالسيادة الكاملة على تايوان . رغم هذا الموقف، لم تحدّ الصين عن مواقف متحفّظة حيال طموحات روسيا داخل المساحات التي كانت يوماً جزءا من الاتحاد السوفياتي المندثر. 

 

صدر بيان فبراير 2022 المشترك الصيني الروسي في بكين قبل أيام من بدء الهجوم العسكري الروسي ضد أوكرانيا في 24 من نفس الشهر. ولم يستطع بوتين الحصول على موقف صيني جديد بشأن أوكرانيا. فلم تعترف بكين بضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ولم تعترف لاحقا بضمّ موسكو في سبتمبر 2022 لأربع أقاليم احتلتها منذ بدء العمليات العسكرية هناك . ورغم عمل بكين على تطوير تحالفها مع موسكو، تجنبت دعم أي تدخلات خارجية ورفضت تغيير الخرائط بالقوة . والأرجح أن القيادة الصينية لم تكن تريد، من خلال هذه المواقف المبدئية، إتاحة المجال للتشكيك بوحدة الأراضي الصينية وما حصلت عليه من اعتراف دولي شامل في هذا الشأن بما في ذلك الإقرار بأن تايوان جزء من جغرافيا الصين وتاريخها . وعملت بكين بحنكة على عدم القبول بأي مقارنة ما بين حالتي تايوان والقرم . لكن شيئا ما تبدًل منذ بداية الحرب في أوكرانيا. بدا البلدان في خندق واحد يواجهان عداء الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. خرجت من واشنطن نظريات استراتيجية ترى أن التخاذل في أوكرانيا سيشجع الصين على غزو تايوان وأن نجاح بوتين في مغامرته سيكون حافزا لجين بينغ لخوض نفس المغامرة ضد الجزيرة . ولئن كثّفت بكين من استعراض العضلات العسكرية حول الجزيرة محاكية عمليات لغزوها، خرجت من العاصمة الصينية في الأشهر الأخيرةً تلميحات بدأت توفّر منطقاً لاحتمالات دعم روسيا عسكريا طالما أن المنطق نفسه يقف وراء تقديم الدعم الغربي العسكري لأوكرانيا . ما زالت الصين شديدة الحذر في القبول بمبدأ المقارنة بين الحالتين. لكن ما خرج به السفير الصيني في فرنسا، وهو الذي يفترض أنه لا ينطق عن هوى، يمثّل انقلابا كبيراً في المفاهيم الجيوستراتيجية التي تعتمدها عقائد بكين وقادتها ونصوص الحزب الحاكم فيها. أدلى السفير الصيني لدى فرنسا لو شاي بدلو جديد، في مقابلة أجرتها معه إحدى القنوات الإخبارية الفرنسية في 21 أبريل الجاري. قال الرجل إن دول الاتحاد السوفياتي السابق "ليس لها وضع فعلي في القانون الدولي، لأنه لا يوجد اتفاق دولي لتجسيد وضعها كدولة سيادية". لكن اللافت جاء في ما يخص شبه جزيرة القرم، فرأى أن الأمر "يعتمد على كيفية النظر إلى المشكلة. 

 

هناك تاريخ. كانت شبه جزيرة القرم في البداية لروسيا. خروتشيف هو الذي قدم القرم لأوكرانيا في حقبة الاتحاد السوفياتي". غضبت باريس . عبرت عن "صدمتها" داعية إلى توضيح من بكين. وذكّرت بالاعتراف الدولي بأوكرانيا داخل الحدود التي تضم القرم في عام 1991 من قبل المجتمع الدولي بأسره ، بما في ذلك الصين. امتد الغضب باتجاه دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، التي يشكك موقف السفير الصيني منطقيا بسيادتها واستقلالها ونهائية كينونتها خارج الاتحاد السوفياتي الذي بات من التاريخ. أما كييف المعنيّة بشطط سفير الصين فقد نددت بـ "رواية عبثية" لتاريخ القرم يسردها سفير بكين. يصعب التصديق أن مواقف سفير الصين في باريس جاءت صدفة أو زلّة لسان أو أنها استنتاج شخصي مختلف عن ثوابت بلاده . ففي الأمر وجهة أيديولوجية تختلف عن الرشاقة والمناورة اللتين تتمتع بهما الدبلوماسية الصينية التي يتعايش داخلها موقف لا يعترف بـ "الضم الروسي" وموقف لا يدين موسكو بشأن حربها في أوكرانيا لا بل يحمّل الغرب مسؤولية ما وصلت إليه أمور أوكرانيا من تصعيد .  غير أن موقف سفير بكين في فرنسا، يفضح، أياً كان ردّ فعل الصين على غضب فرنسا وحلفائها، تحوّلاً تدريجي في الرؤية الصينية لتاريخ وجغرافيا العالم. قد يتّسق التحوّل مع تطور علاقات الصين مع روسيا ومع الدور الذي بدأت بكين تُظهره وتَعدُ به في التعامل مع ملفات العالم. وقد تظهر لهذه التحولات تدريجيا واجهات أخرى تعبّر عما تخفيه الصين في نصوص مؤتمر الحزب الشيوعي الـ 20 في اكتوبر 2022 والذي رسم للصين آفاقا جديدة بما في ذلك تمكين تيار جين بينغ من السيطرة على الحكم وانتخابه لاحقاً رئيسا للبلاد لمرة ثالثة غير مسبوقة لمدة 5 سنوات. لم يكن مفاجئا أن تعلّق وزارة الخارجية على تصريحات سفيرها في باريس بتأكيد مواقفها الثابتة القديمة في احترام سيادة واستقلال الدول بما فيها تلك التي كانت سوفياتية الماضي. وسيكون غريباً أن يكون سفير بكين قد غرّد من خارج سرب لا يحصل أن يتساهل مع أي نشاز. ولئن تطوي بكين بتصريح صفحة تصريح ارتكبه سفيرها، غير أن الحدث يحضَر العالم أجمع لاحتمالات قراءات صينية للعالم إذا ما احتاجت بكين تحديث رؤاها لهذا العالم .

 

المصدر : عربي-sky-news



تعليقات

أحدث أقدم