على حافة النهاية ...

مشاهدات




ضرغام الدباغ

 

1  مؤشرات وبداية

في أواسط الشهر التاسع أيلول/ سبتمبر وأنا عادة أستعد لأشهر الخريف فالخريف يعني فيما يعنيه أن الحياة ماضية في التجديد ومؤشرات الرحيل ظاهرة بدرجات متفاوتة  فالأشجار حتى المعمرة منها الباسقة والقوية منها أزف وقت رحيلها فتنفض أوراقها الصفراء الذابلة التي حان وقت سقوطها تتوهج صفراء منذ أسابيع ولكنها لا تتساقط بسهولة بل وحتى في رحيلها تمنح الحدائق في المدن والغابات منظرا جميلاً وبالنسبة لي معظم الاحداث المؤسفة حدثت في الخريف .  وهذه المرة في خريف 2022 كنت في اسطنبول والأمر ابتدأ معي بألم في الجانب الأيسر من الرأس حسبته في اليوم الأول على أنه مجرد صداع ولكن في الأيام اللاحقة والصداع يلازمني ولا يزول ولا يزيد بشدته فالأمر على الأرجح شيء آخر .... فما هو الشيء الآخر ...؟ كان هذا المؤشر الأول وصفارة الإنذار التي لم نتعامل معها بما تستحق من الأهمية رغم أني كنت قد قرأت منذ وقت بعيد أن كل ما يصيب الأنسان بعد الأربعين من العمر عليه أن يأخذه مأخذ الجد والاهتمام ... فأربعون عاما من العمل المتواصل دون لحظة استراحة شيء يستحق الانتباه القلب ينبض والدماغ يستقبل ويبعث بمؤشرات هذا غير أعضاء مهمة تعمل على أفضل ما تكون عليه التكنولوجيا .... الكبد والكلى والرئة والمحرك الكبير ... القلب ... أنها تكنولوجيا دقيقة للغاية ولكن ليس هناك شيء أبدية .

 

توفي جدي وهو في حوالي المئة من العمر بسرطان في الدماغ وتوفي والدي بسرطان الدماغ ايضاً إذن فليس من المستبعد  أن يصيبني نفس الشيء وأنا في الثامنة والسبعين من العمر (فأنا من مواليد 6 / تموز ــ يوليو / 1944) ووالدي أصيب وهو السبعينات من العمر ولكني اذكر أني حين قرأت مذكرات والدي بعد وفاته (كان يواظب على كتابة يومياته منذ شبابه وحتى وفاته)  فوجدت أن مستوى خطه يتراجع بشكل ملحوظ وهو صاحب الخط الجميل الأنيق .. حتى أصبح خطه قبل وفاته مجرد خربشات لا تكاد تفهم ثم كفت قدرته نهائيا وتوقف قبل وفاته بأشهر القدرة على الكتابة . ولكن مستوى خطي انا لم يتأثر باللغتين العربية والألمانية لذلك استبعدت أن أكون مصابا بالسرطان ولكن مع ذلك  فالأمر يستبعد أن يكون شيئاً بسيطاً وعابراً . ولكن حدث يوم ( 18/ سبتمبر) أن سقطت على الأرض واستبعدت زوجتي أن يكون الأمر بسيطاً لذلك قصدنا مستشفى تركي، ولكني بدأت أتحسن في اليوم الثاني والثالث حتى بدون تناول علاج، ولكن لا خلل ملحوظ في حركة الساق واليد،، لذلك صممت على الخروج من المستشفى، وكانت زوجتي مضطرة للذهاب إلى برلين، لذلك سافرت على عجل  (7 / نوفمبر) على ان ألتحق بها بعد  أيام بحسب توفر بطاقة السفر(تمكنت من الحجز ليوم 16 / نوفمبر). وفي يوم  8 نوفمبر  تفاقمت حالتي الصحية بحيث فقدت القدرة على النطق، وتحريك رجلي اليمنى وذراعي الأيمن بدرجة شبه كلية وفي 9 / نوفمبر لم أكن أستطيع أن أتكلم مع زوجتي في الهاتف فلم يكن بوسعي تلفظ كلمة واحدة بالعربية أو بالألمانية أدركت زوجتي في الهاتف من برلين أنني في وضع محرج فأسرعت بالقدوم بطائرة الفجر من برلين يوم الخميس  (10 / نوفمبر) . توصلنا لأسباب وجيهة إلى ضرورة السفر لبرلين وتمكنا فعلاً ولو بصعوبة إيجاد مقاعد على طائرة الظهيرة (هناك 5 طائرات يومية من إسطنبول لبرلين يومياً) يوم السبت 13 / نوفمبر. وكانت مجازفة بدرجة معقولة  ان نتعرض لجلطة جديدة اٌقسى من الثلاث السابقات وقد تكون القاضية . 

 

2 في برلين / مستشفى الشارتيه

على كل حال وصلنا برلين بعد ساعتان ونصف من الطيران وبدا أن المحنة وضعت في طريق الحل وأخذت من كرسي الدفع من باب الطائرة إلى سيارة تاكسي ومن باب المطار إلى البيت وفي الطريق سألتني زوجتي كيف سنصل إلى البيت / الشقة وفي باب العمارة أقترح سائق سيارة التاكسي الشاب التركي أن يساعدني بالوصول إلى الشقة ... يا له من اقتراح أخوي جميل وفي اليوم التالي 14 / نوفمر بدأت الاتصالات عبر الهاتف طبيبي العائلي أحيط علما وأرسل خطابا بواسطة البريد الالكتروني إلى إدارة مستشفى الشارتية (Charite)  التي طلبت منا الحضور الفوري وخلال دقائق كانت سيارة إسعاف مع طبيب اخصائي وممرض مختص في البيت وعاتبونا على التأخير ....!  فورا إلى الشارتية وهي عبارة عن قلعة طبية لها شهرة عالمية بجميع أقسامها ومباشرة إلى قسم الجملة العصبية (Neurologie Abteilung)وبدون تأخير شخص الإصابة بعد تصوير شعاعي (CT Scan) جلطتان خفيفتان وثالثة قوية والأمر بحاجة إلى تدخل فوري وسيتم خلال دقائق . لم أكن بوارد الرؤية والسماع وتشخيص ما يدور ولكن شعوراً قويا كان يملأ كياني أنني بين أيدي خبيرة لاحقا أخبرتني زوجتي أن كبيرة الأطباء في المستشفى كانت تقف فوق رأسي وتسرع بنفسها لأخذي إلى قسم الاشعة ثم تأخذ نتائج التحاليل والتهيؤ للعملية بنفسها تدخل وتخرج في غرف القسم وهي تخفف من وقع الأمر على زوجتي وقالت لها " أنظري يا سيدة الدباغ .... زوجك بحالة خطرة فهو مصاب بثلاث جلطات وجمجمته مليئة بالدم .. والخيارات أمامنا ليست كثيرة وسنجري له عملية فوراً ستستغرق 6 ساعات وسأفعل المستحيل لإنقاذه ولكني أصارحك أن احتمال نجاح العملية هو 75%  ولكني سأنجح ..... سأنجح... وسأعيده لك حياً ..."

 

أما أنا فكنت في عوالم أخرى لا علاقة لها بالجلطات الدماغية عوالم لا أختارها بنفسي ولاأختار شخوصها بل هي تفرض نفسها صحيح أسمع كلمات ولكني دماغي عاجز عن ربطها وتجميعها فأنا لا أفهم ما يدور بدقة حولي ولا أستطيع التفوه ولو بحرف واحد ....! ولكن دماغي المجروح والمتعب ما زال يطلق إشارات عدم الاستسلام ... يفكر ....! ويعانق من يريد .. البعيد عني 12 ألف كيلومتر. ليس ببعيد كثيراً ... آه منك ... فأنت أينما حللت في دمي ..! كانت العينان تعملان بدرجة معقولة ولكن تسجيل الاحداث في الذاكرة يبدو ضعيفاً كنت أشاهد ما هو يقع تحت ناظري ولكني لست متأكداً من قدرتي على تخزين المشاهد وربطها  ببعضها واستخراج الصورة المنطقية وكنت أعرف انني في الشارتيه وأنهم يدخلوني في غرف ومختبرات ويفحصون كل شيء وأسمعهم يحدثون زوجتي ويسألونها كثيراً ولكن قدرتي على تخزين (save) ما اسمع ضعيفة جداً أو لنقل معدومة ولكن زوجتي تحفظ كل شاردة وواردة وبوسعها استعادة شريط الاحداث صورة وصوت بدقة عجيبة .. شعرت أنهم يأخذوني على السرير النقال إلى مكان ما، الطبيبة البروفسورة تدفع السرير بنفسها ...! ومعها زوجتي .. قالت لي فيما بعد " كنت أشعر أنهم يسابقون الزمن .." أدخلوني لمكان ما .. شاهدت رجلاً يجلس على طاولة و كومبيوتر .. حاول أن يمازحني .. ولكني كنت مجرد كومة لحم لا غير .. لم أفهم بدقة مرامه ربما أراد أن يبعث في هذه الكومة بعض الأمل .. كان يكلمني وهو لا ينتظر مني إجابة حتى دخولي غرفة العمليات (في تلك اللحظة لم أكن أفرق بين هذه وتلك) كنت أسمع صوت زوجتي تحدث الفريق الطبي بقيادة البروفسورة الطبيبة التي لعبت دورا كبيرا في إعادتي للحياة ... ثم لم يعد بوسعي سماع أو رؤية شيء دون ألم ودون إحساس دقيق مما يجري ... ولكني كنت أعرف من أنا وتذكرت في تلك اللحظات صور أهلي ووطني ومرت في ذاكرتي المنهكة صور أخرى متلاحقة ... كنت أنا على شفا النهاية ولم يكن بوسعي تحريك أي جزء من جسمي ... ربما زرقت بعدة أبر ... لا أدري ... ثم لا شيء .....

 

كان معرفة الزمن قد أصبح ضربا من العبث أو معرفة ما يدور بدقة ويصح القول تماماً أني كنت لستة ساعات خارج الحياة ... وأنا أسجل الكثير مما دار بناء على ذاكرة زوجتي والغريب أنها تتذكر كل شيء بدقة تامة نص الحوارات .. وحتى ملامح وجهي و... تقول أنني كنت أحاول الحديث فلا أقدر .. أريد أن أقول شيئاً ولكني غير قادر على لفظ الكلمات .. وأحاول ذلك مرات ومرات ... تقول " كنت أشعر انك تتعذب لأنك تريد قول شيء ما قد يكون مهماً بالنسبة لك ولا تقدر ..! فينتابك الغضب والعصبية ... وتجهش هي بالبكاء ...  كنت أسكت أنا رأفة بها وبنفسي ...فأخاطب نفسي " ضرغام ... كن عاقلاً وأفهم ما أنت فيه .. ومت بجلال قدرك ". ولكني أريد قول بضعة كلمات هي خلاصة حياتي .. ولكني عاجز عن التلفظ .. هو شعور مؤلم أكثر من الألم نفسه ...كنت أريد القول " بلغوا سلامي .. ومحبتي واحترامي ...أنا لست آسفا على شيء ... سأقابل أصدقائي ورفاقي .. الذين قضوا في سوح العمل .. اريد أن أعانق (ع) وأقول له ... " لقد بقيت مخلصاً لأخر ثانية من عمري ..! سأموت وأنت وأسمك على فمي وفي قلبي ... ولكن ليس بوسعي ان أنطق حرفا واحداً .... هذا هو الألم وليس شيئاً آخر ...!

 

في لحظة معينة .. ليس بوسعي ان أسجل ..ظروفها حاولت أن أقرأ في نفسي شيء من القرآن .. ولكني كنت اتوه بين الكلمات .. وكان ذلك يؤلمني... أحاول أن أستوعب ما يجري بالنظر إلى الغرفة / الصالة وبوسعي أن أتذكر أني وجدت نفسي في غرفة مليئة بالمعدات الطبية / الالكترونية التي تقدم قراءات وإضاءة خافتة من أجهزة كثيرة تحيط بسريري .... وأمامي نافذة أدركت أنها تمكن من يريد رؤيتي من غرفة مجاورة .. أدركت أنها إذن أنها ربما غرفة العناية المكثفة (Intensiv Station) في لقطة لا أتذكر متى وكيف وأين ... اقتربت زوجتي مني وقالت لي " ضرغام أجروا لك عملية وأنت الآن في العناية المركزة " قالت لي فيما بعد أنها قالت للمشرفين " دعوني اراه لثوان فقط أنا أعرفه أفضل منكم سيغضب وينفعل ما لم يدرك ماذا يجري ويدور " فتركوها أن تقف امامي على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار تلفظت بهذه الكلمات فقط وانسحبت ... حتماً كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل نحن الآن في 15 / نوفمبر حتماً ... برؤية مفككة أرت أن أقول لها مشفقا عليها من التعب " أذهبي للبيت ...". ولكني كنت عاجزا عن إخراج الكلمات .. وكنت قد قلت لزوجتي بكلمات متناثرة حين كان ما يزال بوسعي تلفظ ذلك ولو بتعثر بالنطق " أنظري .. أنا الآن في 78 من العمر ... ثقي لقد شبعت من الحياة في العمل وفي النضال من أجل ما آمنت وإن مت فأنا لم اسيء لبشر في حياتي وعملت بكل طاقتي لوطني وشعبي ولكني أريد أن أعيش من أجلك ... أشعر أنك بحاجة لي " قالت لي زوجتي فيما بعد " كنت أتمنى من الله أن تبقى حياً ولو في حالة الشلل التام وعدم القدرة على الحديث .. أن تبقى على قيد الحياة فقط ... ضرغام لن أستوعب بدقة ما تقول، ولكني لاحظت أنبوبا يمتد من رأسي حتى أعلى صدري بلون أحمر أدركت أنه مليء بالدماء وبصعوبة تشكلت صورتي على النافذة الزجاجية .. أنا راقد على السرير ولفافة ليست كبيرة تربط جمجمتي وخرطوم مطاطي يتدلى من الجانب الأيسر وحين حاولت  بيدي اليسرى السليمة أن ألمس رأسي أدركت أن هناك أنبوبا ثانياً ويتدلى منه كرة زجاجية بحجم رمانة صغيرة أو حبة ليمون  مليئة بسائل أحمر.. لابد أنه دمي .... فيما بعد أخبرتني زوجتى أنها ثلاث كريات بنفس الحجم مليئة تقريباً بالدم ... ثم علمت أنهم حفروا ثلاث حفر في جمجمتي ليسيل منها الدم خارجاً ولست أدري إن كانوا قد سحبوا كمية أخرى من الدم ... ولكني لاحقا (في الأيام اللاحقة) تعرفت على صحفي ألماني (رئيس تحرير صحيفة محلية) بنفس حالتي تماماً تتدلى من جمجمته ثلاث كريات حمراء..... إذن فاتنا قطار الموت ..... وتركني على رصيف المحطة بالانتظار .....!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)

الشاريتيه طاقمه الطبي (غير الإداري والهندسي) مؤلف من أكثر من 200 بروفيسور و4000 طبيب متخصص ذو كفاءة عالية يغطون كافة المجالات والتخصصات 13 بروفسور حصلوا على جائزة نوبل  ويدرس الطب في مستشفى الشارتيه 7500 طالب وطالبة مسجلون في الشاريتيه اليوم . وتتعامل مع 1،080،000 عيادات خارجية و 128،000 مرضى مقيمين في 3،500 سرير سنويا 14،400 أشخاص يعملون في مواقعها الأربعة في برلين .المعلومات من الموسوعة الألمانية والأرقام تعود لعام 2021 / 2022


(الصورة : إحدى أقسام مستشفى الشارتيه / برلين )




تعليقات

أحدث أقدم