الانعكاسات الخطيرة لإعادة تسليح ألمانيا

مشاهدات


دانة العنزي



في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا أعلنت ألمانيا رسمياً عن تخصيص نحو 100 مليار يورو لإعادة تسليح جيشها في واحدة من أبرز التداعيات الجيوسياسية الخطيرة على أوروبا والعالم بعد الغزو . واتخذت ألمانيا هذه الخطوة بالطبع بسبب مخاوفها من تطور الخطر الروسي وسط عجز واشنطن وحلف الناتو التام عن لجم جماح روسيا النووية . إذ من المعروف أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية تخلت تماماً عن فكرة امتلاك جيش قوي وقد ارتضت ضمنياً بمظلة الحماية الأميركية التي شملت أوروبا بأكملها من خلال حلف الناتو . 

 

ومنذ فترة ليست بالقصيرة توقّع الساسة الألمان والأوروبيون عامة بأن ثمة تحولاً جذرياً في التوجه الإستراتيجي لواشنطن نحو التركيز التام على احتواء الصين مقابل تهميش شبه تام لمناطق التركيز الإستراتيجي التقليدية لواشنطن التي تضم أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط . وتفاقمت صحة تلك التوقعات عقب نجاح بوتين في ضم شبه جزيرة «القرم» عام 2014 وسط تخاذل أميركي واضح . وتأكدت تماماً صحة تلك التوقعات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا المستمر حتى الآن دون تحرك أميركي فعّال لمواجهته . ولهذا السبب أصبحت مسألة امتلاك ألمانيا لجيش قوي يضاهي جيوش الدول الكبرى ملحة ومحل توافق شعبي ونخبوي شبه تام . وسيكون لإعادة تسليح ألمانيا العديد من التداعيات الخطيرة لاسيما على القارة الأوروبية . ويأتي تسليح ألمانيا في سياق أوروبي غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حيث صعود لافت لأحزاب اليمين المتطرف - أكبر الداعمين لمسألة التسليح - في معظم دول أوروبا وتفرد تام بالحكم في إيطاليا والمجر . ومن ثم فمن المؤكد أن تسليح ألمانيا - التي ترتبط في الذاكرة الأوروبية بتسببها في إشعال الحربين العالميتين- سيؤدي إلى حمى سباق تسلح أوروبي تقليدي ونووي مدفوعة من اليمين المتشدد. لاسيما أن خطة تسليح ألمانيا والميزانية الضخمة المرصودة لذلك سيجعلها أكبر قوة عسكرية أوروبية خلال عقد من الزمان . حيث ستتفوق على إنكلترا وفرنسا وإيطاليا القوى العسكرية الثلاث الرئيسية في أوروبا . ومن منظور واقعي بحت لن تسمح تلك القوى الأوروبية لألمانيا أن تتفوق عليها في ميزان القوة . وهذا في حد ذاته ربما يدفع ألمانيا إلى امتلاك السلاح النووي لسد فجوة القوة مع أقرانها الأوروبيين . لاسيما فرنسا التي ترتبط معها بعداء تاريخي . إذ في سياق ذلك أيضاً وسط تراجع تام لدور الحماية الأميركية في أوروبا ستتنافس تلك القوى على القيادة الأوروبية ما سينشئ حالة من التوترات والاستقطابات الحادة داخل القارة وسباق تسلح مواز من جانب دول أوروبا الصغيرة .

 

وتنذر خطوة ألمانيا أيضاً بتدهور حاد لقوة الاتحاد الأوروبي المتدهورة بالأساس لاسيما التعاون والتضامن بين أعضائه في المجالات المختلفة لاسيما مجال الطاقة والاقتصادي عامة . إذ من المتوقع في سياق التركيز القوي على التسليح أن تعكف الدول الأوروبية على تحقيق مصالحها الخاصة على حساب الاتحاد وسياساته العليا من أجل توفير الميزانيات الضخمة للتسلح . وعلى نحو آخر تشكل خطوة ألمانيا ضربة قاسمة لقوة الناتو والتضامن بين أعضائه ولما تبقى من نفوذ لواشنطن في القارة . لاسيما في ظل تفاقم فجوة الثقة الأوروبية في الناتو وواشنطن. وهذا بكل تأكيد ينذر بتوتر حاد مرتقب بين واشنطن وأوروبا . وتجدر الإشارة هنا أن أي دولة أوروبية مهما بلغت من قوة لن تستطع أن تحل محل واشنطن في الحماية. لأسباب عدة منها غياب الثقة الأوروبية في أي قيادة أوروبية محتملة كما أن لكل دولة أوروبية مصالحها ومخاوفها الخاصة والتي تتباين تماما مع بقية الدول الأوروبية. ومن ثم على سبيل المثال من الصعب تصور تضامن ألمانيا مع فرنسا في مسألة قضية مكافحة الإرهاب في جنوب المتوسط . حاصل القول هناك العديد من الانعكاسات الخطيرة لتسليح ألمانيا، ليس بوسع المقال سردها كلها. الشاهد في الأمر أن تسليح ألمانيا سيدفع بلا أدنى شك القارة الأوروبية إلى حقبة واقعية شديدة التنافس والصراع محفزة بهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي وقد تنذر بتفكك حلف الناتو والاتحاد الأوروبي .



المصدر : وكالات



تعليقات

أحدث أقدم