"إعلان بكين" : ما يرى وما لا يرى (5) الصدمة في واشنطن

مشاهدات


وليد فارس

 


بعد أن راجعنا مواقف الأطراف المشاركة في "قمة بكين" من سعودية وإيرانية ، وإعادة تموقع إسرائيل ، لا بدّ من مراجعة الموقف الأميركي وهو الأكثر تعقيداً لأنه الأكثر انقساماً وانصداماً وربما الأكثر تأثراً بما جرى وسيجري في المنطقة حيال السياسة الخارجية الأميركية . فما هو الوضع في واشنطن من كل ما جرى ؟ وماذا يجب أن نتوقع ؟

 

في الشكليات

بمجرد أن اجتمعت الأطراف الثلاثة في العاصمة الصينية، وصدر إعلان التطبيع عنها، حتى تسارع الناطقون باسم الإدارة ليعلنوا أن "أي إعلان مشترك للتطبيع في المنطقة هو خبر جيد"، وكان واضحاً أن البيت الأبيض تفاجأ بالخبر، ولكنه أراد أن يقنع الرأي العام الأميركي أن الأمر طبيعي، وتحت السيطرة ، وأنه يخدم الأمن والاستقرار والمصالح الأميركية ، ولكن ما وراء الابتسامات الدبلوماسية شعوراً بالتعجب الكبير وشعوراً بالانزعاج المهذب ، التعجب ربما بسبب عدم المعرفة بما يحدث ما وراء الستار، وقد بدأت أصوات في المعارضة الجمهورية تسأل الإدارة وتثير مسألة "عدم معرفة واشنطن بأمر هائل كهذا" على رغم قمة الرئيس جو بايدن مع القيادتين السعودية والخليجية في جدة الصيف الماضي، وعلى رغم زيارات مدير وكالة الاستخبارات المركزية السيد ويليام بيرنز إلى الرياض والمنطقة أكثر من مرة، فقيادات الكونغرس لا تفهم كيف أن البيت الأبيض لم يعرف بذلك أو لم يعلم القيادات التشريعية بهذه التطورات، وسيسعى مجلس النواب، وربما مجلس الشيوخ، أن يعقد جلسات استماع ومساءلة بالموضوع "لأن هناك خللاً قد وقع في السياسة الخارجية"، إذ يتساءل الكثيرون في الولايات المتحدة حول هذا التطور لجهة معرفة سبب عدم علم الإدارة بالمحادثات السرية بين الأطراف الثلاثة: الحليف السعودي والمنافس الصيني والخصم المفترض أن يتحول إلى شريك! هذه الحالة الضبابية سوف تثير الدهشة ليس فقط داخل أميركا، بل أيضاً في "الناتو" ولدى إسرائيل وسائر الحلفاء: كيف يمكن لأقوى قوة عظمى أن تفشل في معرفة ما يجرى، وإذا كانت للبعض فيها معرفة (وهذا ممكن) فلماذا لم يتمّ إعلام الرأي العام بذلك؟ بالطبع، فإن فشلاً كهذا في الحصول على معلومات كهذه، أو عدم تعميمها، هو شأن داخلي، ولكن ستكون له تداعيات خارجية أكيدة .

 

في محتوى الصدمة

هذا على صعيد الشكل، ولكن تبقى مسألة المحتوى، أي الصدمة في واشنطن حيال التغيير الكبير والمفاجئ في السياسة السعودية تجاه إيران والصين. فبينما استعجل البيت الأبيض لتخفيف وطأة "الصفقة" وإعادة تموقع التحالف العربي إقليمياً ودولياً خارج الدائرة الأميركية، لم يُخفِ مدير وكالة الاستخبارات المركزية انزعاج الإدارة من الاستقلال السياسي للسعودية والتحالف عن "إرشادات" فريق بايدن، وقال بيرنز بعد اجتماعه مع القيادة السعودية إن الإدارة لم تهضم التقارب مع إيران والصين، وإن ذلك سيحتم إعادة تقييم للمعادلة الأميركية في المنطقة، وتبين أن انزعاج المسؤولين الأميركيين من استقلالية الرياض عن سياسات واشنطن، لا سيما في موضوع تسعير النفط ، لم يقل أهمية عن إنجاز اتفاق سعودي مع طهران قبل أن تتمكن الإدارة من إنجاز اتفاقها هي مع إيران ! بكلام آخر، واشنطن أرادت أن تكون هي البادئة بمبادرة كهذه، فكان فريق التفاوض في البيت الأبيض يسعى لصفقة يعقدها للتوسط بين إيران والسعودية بدلاً من الصين، ولكن فريق بايدن أخطأ بالاستخفاف بحلفائه في المنطقة، والاستهتار بمصالحهم، والبعض يضيف أن فريق باراك أوباما - بايدن وصل إلى مرحلة حيث كان على وشك أن يحاول عزل قيادات التحالف العربي معنوياً وتدريجياً لمعارضتها الاتفاق النووي وتصديها لـ "الإخوان"، فانفلت الجزء "الليبرالي" من الإعلام الأميركي منتقداً هذه الدول مراراً وتكراراً، خالقاً صدمة في المنطقة حيال هذا التصرف، وكان البيت الأبيض، تحت الرئاستين، أراد العرب تابعين لواشنطن كيفما شاءت، والصحافة المؤيدة لهذه الإدارات تستمر في انتقاداتها لشركاء تاريخيين، وجاءت أربع سنوات للرئيس السابق دونالد ترمب صححت المسار وأعادت الشراكة إلى حد ما، وعاد الاحترام المتبادل بين أميركا وحلفائها العرب، مما أغاظ المعارضة في واشنطن، فشنت صحافتها انتقادات ضد قيادات عربية تواجه الاتفاق النووي والتيارات الإسلاموية المتطرفة، وتحملت عواصم التحالف الأسهم الإعلامية الموجهة إليها ما دامت إدارة ترمب ملتزمة بخطها المستقيم مع التحالف، على رغم بعض الأخطاء في المنطقة. واستمر عرب الاعتدال بدعمهم واشنطن على رغم تبدل في أكثرية الكونغرس في 2019، وانضمّ بعض الدول العربية الى "معاهدة أبراهام" موفرة ورقة إضافية إلى الولايات المتحدة . ومع خروج ترمب من البيت الأبيض، تغيرت سياسات واشنطن، وكما كتبنا سابقاً، انقلبت السياسة الأميركية من جديد تجاه المنطقة، وعادت إدارة بايدن لتضغط من جديد على الشركاء العرب معتبرة أن الحكومات العربية ستواصل تعاونها مع واشنطن وتمشي بأية مبادرة تطلقها الإدارة باتجاههم. وهنا كان الخطأ الاستراتيجي، فالتحالف العربي لم يعد قادراً على تحمل الأخطاء بحقه ، ورأى أنه بات عليه أن يقرر بنفسه حول دوره في السياسات الإقليمية مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة وطبيعية مع الولايات المتحدة الأميركية، واستمرت أخطاء الإدارة بنظر التحالف، من رفع الحوثيين عن اللائحة، إلى تسليم "الطالبان"، إلى استمرار الضغط على المعتدلين، إلى محاولة إقحام العرب في حرب أوكرانيا، إلى مطالبة السعودية وحلفائها بضخ النفط بسعر تقرره واشنطن بينما رفضت الإدارة مشاركة العواصم العربية في المحادثات مع طهران . عندها طفح الكيل .

 

الصدمة

وأعلنت السعودية من بكين أنها باتت مستقلة القرار في خططها السيادية والدفاعية والدبلوماسية، وبالتالي سوف تطبّع علاقاتها مع إيران، بشروطها الاستراتيجية، وأعلنت الإمارات والبحرين أنهما ستطبعان مع نظام بشار الأسد أيضاً، ووسع عرب الإقليم نشاطاتهم الاقتصادية مع الصين وروسيا، وتدريجاً مع إيران، وأحدث ذلك زلزالاً في واشنطن لدى الإدارة والكونغرس . فالبيت الأبيض كان يصوّر العلاقة مع الرياض والعواصم الأخرى على أنها لا تزال في وضعية المقرر والمنفذ، وفجأة، قلبتها قيادة الرياض إلى علاقة الند بالند، وهذا أمر لم تعتده البيروقراطيات في واشنطن، ولعل الصدمة أتت من أسباب ثلاثة، الأول أن الرياض خرجت بموقف استقلالي علني ولكن غير صدامي، نظر إليه أنه "مهذب" بعكس ما قام به الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ضد حليفه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش خلال حرب العراق، والسبب الثاني أن المملكة قررت ونفذت لما هو لمصلحتها من دون أن تنتقد شريكتها الأميركية، إذ لكل دولة سيدة أولوياتها، والسبب الثالث كان لباقة القيادة السعودية عندما أعلنت التقدم في صفقاتها مع الولايات الأميركية، كعقد طائرات "البوينغ" الهائل وغيره من الصفقات، فاحتارت الإدارة ماذا تقول، فخطوة الرياض الاستقلالية لكمة للإدارة سياسياً، ولكن الصفقات التجارية كسب كبير للشركات ومحفّز واسع لفرص العمل، وهي نقطة الضعف والقوة لأية إدارة، واحتارت نخب واشنطن كيف تتعاطى مع عقل منظم سعودي لم تعتد عليه من قبل، يعرف التعاطي مع الشعب الأميركي مباشرة بينما يحافظ على مصلحته الوطنية، كما فعلت فرنسا، وتفعل الهند حالياً، ولكن ما بعد الصدمة سوف يأتي السؤال الكبير: كيف ستتعاطى الإدارة مع سياسة المملكة الجديدة في ظل التطورات العالمية المتسارعة؟ هذا ما سنكتب حوله في حلقات مقبلة .



المصدر : اندبندت عربية


 

تعليقات

أحدث أقدم