المدرسة الدينية العلمية في سامراء (إرث وأثر)

مشاهدات




د. مثنى حارث الضاري


أرسل الشيخ (نعمان الأعظمي) -رحمه الله- سنة (1910م) رسالة إلى السلطان (محمد رشاد) ممهورة بختم صنعه للإمام الأعظم (أبو حنيفة) النعمان بن ثابت -رحمه الله- يناشده فيها إنقاذ (مدرسة الإمام أبي حنيفة) وتجديدها لتقوم بواجبها في حفظ علوم الإسلام ونشرها الذي كانت تقوم به منذ قرون بعد تأسيسها سنة (459 هـ)  فاستجاب السلطان -رحمه الله- لذلك مباشرة وأمر بإعمار المدرسة وتوسعة بنائها ودعمها وتشجيع طلبتها فحفظ -بفضل الله- لأهل العراق إرثهم وعلومهم وللإمام أبي حنيفة -رحمه الله- مدرسته .

 

فانطلقت المدرسة من جديد بهمة الشيخ نعمان في (1911م) وبإشراف مديرها العلامة محمد سعيد النقشبندي -رحمه الله- لتقود ركب التعلم الديني الحديث في العراق وتخرّج للبلاد نخب علمائها ومثقفيها وإدارييها ورجال الإصلاح فيها وتستمر في تقدمها وتطورها على اختلاف المراحل التي مرت بها حتى تستوي أخيرًا كلية للشريعة في جامعة بغداد . وقبل ذلك بعقد ونصف من السنوات كان الشيخ محمد سعيد النقشبندي يناضل على جبهة علمية أخرى حيث سافر من بغداد إلى (الأسِتانة) وقابل السلطان (عبد الحميد الثاني) سنة (1894م) وقدم له بإسم أهل سامراء مناشدة لتأسيس مدرسة علمية في مدينتهم وشرح له الفكرة وبين له الأسباب ونبهه على الخطر الذي يتهدد المدينة وهويتها العربية المسلمة إن هي تركت لقدرها ولم تُشجع الحالة العلمية فيها فاستجاب له السلطان وأمر -رحمه الله- ببناء مدرسة علمية في المدينة وخصص لها مبلغًا كبيرًا فعاد الشيخ النقشبندي إلى بغداد واصطحب معه (100) من طلابها وانتقل بهم إلى المدرسة بعد اكتمال بنائها ومكث معهم مدة ثم عاد مديرًا لمدرسة أبي حنيفة في بغداد . وها هو الزمان يعيد نفسه والأخطار تعود من جديد حيث أقفلت (المدرسة الدينية العلمية) في سامراء منذ سنة (2006م) وتوقفت الدراسة فيها لأسباب غير علمية وغير إدارية بالمرة وإنما هي نوازع شر أريد بالمدينة ونفوس ضعيفة -إلا من رحم الله- رضت بواقعها السلبي وإرادات باردة لا تعي تأريخ المدرسة ولا تهتم بمكانتها العلمية ولا لقيمتها المعنوية فهمها الوحيد هو السعي في السياسات الموضوعة والطرائق المعلومة في زمن الاحتلال للفوز بالمغانم على حساب المكارم . وهكذا تكاملت حلقات الحصار على المدينة وأهلها والجامع الكبير ورواده والمدرسة وطلابها وبدأت مخططات الاستيلاء على المدرسة والجامع لتغيير هويتهما وإزالة آثارهما النافعة وبما يصب في تحقيق الاستبدالين الحسي والمعنوي في التركيبة السكانية في المدينة وما حولها ولتتحقق مخاوف جيل المتقدمين من العلماء والمصلحين التي لأجلها أمر السلطان عبد الحميد -رحمه الله- ببناء المدرسة .

 

إن (المدرسة الدينية) في سامراء هي (إرث) علمي و(وقف) مؤسسي لا يجوز شرعًا ولا قانونًا نزعه من أيدي القائمين عليه والمستفيدين منه فضلًا عن كون المساس بها له أثره المؤذي والخطير الذي لن يقتصر على سامراء فقط وإنما على العراق كله ويفتح الباب على عودة المخاطر التي كانت تكتنف سامراء ومحيطها وقت مناشدة أهلها للشيخ النقشبندي . هذا (الإرث) .. أما الأثر فلا يعيه إلا من عرف سامراء كما هي وكيف كانت وماذا أريد لها وبها حين أسست وبنيت وعلم ما كان فيها من منشآت معمارية وحضارية وعرف ما جرى فيها من فكر خلاق لإعادة تشكيل المكان بما يخدم الإنسان لأهداف عدة لا تقتصر على السكنى والاستقرار -وإن كانا مهمين- وإنما لأمور أخرى كثيرة لا تدرك إلا إذا عرفنا أن مدينة يبلغ طول (أطلالها) (34) كيلومترًا من الشمال إلى الجنوب هي مدينة ضخمة جدًا تكاد تكون بحجم مملكة من ممالك العصور المتقدمة أو دويلة من دول العالم المعاصر قد بنيت في بيداء شاسعة من الأرض تحفها المياه من ثلاثة جوانب متخذة : موقعها المعيشي الصالح للسكنى وموقعها العسكري المحصن والمخدوم جيدًا بوسائل الحماية وراحة الجند والخيل والموقع الحضاري عن طريق ما وضع فيها من أفكار خلاقة وما أنشئ فيها من مرافق عامة خادمة ومراكز ثقافية نافعة ومساجد تضج بالحياة الروحية والعطاء العلمي . إن مدينة واسعة الأرجاء كسامراء لا يناسبها إلا جامع بقياسات جامعها الكبير القديم (الملوية) الذي بقي شاهدًا على عظمة المكان وما فيه من معان وقيم ومعالم للأولين وإن قراءة لحاضر سامراء في ضوء تاريخها الموغل في الحضارة والمترع بالعلوم والمتألق بوسائل الحياة الرغيدة في ذلك الزمان المتقدم هي وحدها الكفيلة بزرع روح الاعتزاز بها والحرص عليها والدفاع عنها والذب عن حاضرها ومدرستها العلمية وجامعها الكبير فهي كما قال (القزويني) في (آثار البلاد وأخبار العباد) : "أعظم بلاد الله بناءً وأهلًا" .


تعليقات

أحدث أقدم