أبعاد الحروب الصليبية

مشاهدات



طارق الحريري
خبير عسكري



في الحروب عبر التاريخ كان الدين عاملا أساسيا في بعض منها بمعنى أنه السبب في اشتعال المعارك حتى داخل أصحاب الديانة الواحدة عندما تؤججه خلافات مذهبية وأحيانا كانت الحرب تتخذ أبعادا أممية مثل الحملات الصليبية وفى الغالب كانت المعارك التي تدور رحاها دينيا تكرس في واقع الأمر لأسباب أخرى تحت عباءة الدين تعكس مصالح وأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية . من أمثلة هذه الحروب التي تركت علامة بارزة تتعلق بمنطقتنا العربية الحروب الصليبية التي تخللت تاريخيا فترة القرون الوسطى ومن المفارقات التي تتعلق بها أن معاصريها من المسلمين كانوا يسمونها حروب الفرنجة لأن أمراء الإقطاع في أوروبا هم الذين رتبوا لها وقادوها مع الملوك بإشراف من بابا الكنيسة الكاثوليكية في حين يعزى إلى مؤرخي الغرب إطلاق مصطلح الحروب الصليبية لأن الشعار المرفوع طوال تجهيز الحملات وخوض المعارك هو الصليب .

 

تشي قراءة هذه الحروب بأنها إعصار من الغضب الروحي والمكاسب الشخصية والفئوية أيضا، يشير المؤرخ البريطاني "ستيفن رونسيمان 1903 - 2000" صاحب الباع الموسوعي في الكتابة عن الحروب الصليبية إلى طبيعة هذه الحروب الإشكالية فيقول : بغض النظر عن اعتبارها شيء عظيم ومغامرة مسيحيه رومانتيكيه أو اعتبارها آخر الغزوات الهمجية فهي حقيقه مركزيه في تاريخ العصور الوسطى" لقد اهتم الكثير من المؤرخين والباحثين العرب والأوربيين بهذه الحقبة التاريخية وسعوا إلى تفكيك الدوافع وراء هذه الحروب تحاشيا للوقوع في فخ اقتصار الفهم على الدواعي الدينية فقط . اهتم بابا الفاتيكان "أوربانوس الثاني" في تضمين الخطاب الذي ألقاه أمام مجمع "كليرمون- فران" في وسط فرنسا بترويج فكرة الدفاع عن العالم المسيحي واسترداد المقدسات في الشرق حيث استهدف الفرسان والنبلاء تحديدا لتجييش المحاربين ومع انتشار فكرة الخطيئة وقتها والوعد بالخلاص منها تم الحشد للحملات الصليبية لأن من سيحاربون من أجل العالم المسيحي سيتم غسل كل آثامهم كما سيجني المشاركون فيها مكافآت سخية في الآخرة . لم يفت محفزي عوام الأوربيين وهم يحشدونهم للحروب الصليبية ألا تقتصر الدعوة على البعد الديني والمقدس فقط ولكنهم داعبوا خيال العوام نتيجة الأوضاع الاجتماعية السيئة بالمكاسب الدنيونية والخيرات التي سيحصلون عليها وضع بذرة هذا النهج البابا أوربانوس الثاني بداية من خطبته في كليرمون قائلا : "لا تدعوا شيئا يثبط من عزمكم فالأرض التي تسكنوها الآن ضيقة على سكانها الكثيرين وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام وبسبب هذا يذبح بعضكم بعضا إن أورشليم أرض لا مثيل لوفرة ثمارها إنها فردوس المباهج" هكذا كان التلويح بالغنائم . لم تكن دوافع عوام الأوربيين الذين انخرطوا في الجيوش التي انطلقت من أوروبا تحت شعار الصليب دوافع محض دينية كان العماد الأساسي للقوات المحاربة من الفلاحين؛ أولئك الذين أنهكهم استغلال الإقطاعيين وبطشهم إضافة لأن الفترة القريبة السابقة لبدء الحملات شهدت ظواهر طبيعية صعبة وكارثية أحيانا مما تسبب في مجاعات وطوال حياتهم كان الفلاحون يعيشون حياة مسكونة بالعسر والعوز وهذا يكشف سببا جوهريا لتلبيتهم الدعوة بالذهاب إلى الشرق والقدس بحثا عن موطأ قدم جديد يتوفر فيه الطعام هربا من معاناة الجوع في أوروبا . 

 

البابا أوربانوس الثاني هو المحرك الأول للحملات الصليبية على الشرق مستغلا في ذلك ذكاؤه مدفوعا بأطماعه الدينية والسياسية إذ كان يأمل في إعادة توحيد الكنائس المسيحية الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية بهدف تقوية نفوذ الكرسي الرسولي في روما وتعزيز دوره في الهيمنة على العالم المسيحي ومن ثم يصبح الممثل الشرعي الوحيد له . وجه آخر تجلى للحروب الصليبية في أعقاب الهزائم الساحقة التي مني بها البيزنطيين على يد السلاجقة وما أعقبها من فوضى فعندما استقرت الأوضاع في الإمبراطورية بعد تولي "أليكسيس الأول" رأى الفرصة مواتية لاستغلال سيطرة السلاجقة على القدس كذريعة لإقناع القادة الأوروبيين بخطر سيطرتهم على المقدسات مناشدا إياهم بضرورة تقديم العون لطرد السلاجقة ليس فقط من الأراضي المقدسة ولكن وهذا هو الأهم بالنسبة له طردهم من جميع أجزاء الإمبراطورية البيزنطية الواقعة تحت الاحتلال . تنبه التجار في أوروبا بعد بداية الحملات الصليبية إلى أهميتها في تنشيط تجارتهم من خلال فتح قنواتٍ تجارية مع المستعمرات الجديدة وفي دخيلتهم أيضا تنامت رغبة في السيطرة على المراكز التجارية المهمة في الشرق كإنطاكية والقدس ولم يفتهم كذلك استغلال الحملات في تحقيق أرباح من عمليات نقل الصليبيين عبر البحر . تظهر الحروب كما هي العادة دائما السلوكيات الإجرامية وغير الأخلاقية والأطماع حتى لو كانت تحت دعاوى دينية، وعلى سبيل المثال قام الصليبيون بسرقة ونهب الممتلكات التي استولوا عليها بل وبما فيها الكنائس ووصل العنف إلى حد قتل الرهبان والتنكيل بهم واحتفظ قادة الفيالق الشعبية لأنفسهم بالسيطرة على الأراضي التي تم الاستيلاء عليها متجاهلين إعادتها إلى البيزنطيين وامتدت الحروب الصليبية للأعداء السياسيين للباباوات وتاليا تجاوزت هذه الحروب المسلمين إلى الوثنيين السلاف والمسيحيين الروس والمغول والأرثوذكس اليونانيين . جلي أن العالم شرقا وغربا يكافح ضد استغلال الدين وأن يتحول أداة للعنف وتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجا يحتذى للتسامح في العلاقة بين الأديان والقبول بالآخر دون التخلي عن الثوابت الوطنية وثوابت الدين كعلاقة بين الخالق وربه وهذا النهج الرشيد يعزز مكانة الإمارات ودورها إقليميا ودوليا في كبح التطرف ونبذ العنف وإحلال السلام والتعايش بدلا منهما .

 

المصدر : عربي-sky-news


تعليقات

أحدث أقدم