نحن والحضارة الحديثة

مشاهدات


د. حسين عبد القادر المؤيد


إن الفكر الإنساني في مسيرته التاريخية هو سلسلة تطور مترابطة الحلقات ولا بد لنهضتنا العربية التجديدية أن تدرك هذه الحقيقة  وتستفيد من هذا التطور وأن تتخذ مسارا تكامليا مع الثقافات العالمية المعاصرة وفي مقدمتها الثقافة الغربية .. أعتقد أننا في نهضتنا الثقافية العربية الحديثة ينبغي أن نخرج من التناول النمطي الذي دأبت عليه الكثير من نخبنا الثقافية والذي يركز على نقد الثقافة الغربية الى حد الإزراء بها والتهوين من شأنها وهو ما جعل بيننا وبين الغرب حاجزا نفسيا مستمرا يكرّس معاني الكره والعداء ويحول دون التفاهم  والتفاعل الإيجابي . غالبا ما كان يأتي هذا التناول النمطي من نخب ثقافية مؤدلجة إسلاموية أو قومية أو يسارا راديكاليا يقابله الذوبان والتمجيد المطلق للحضارة الغربية من نخب ثقافية عربية محدودة المساحة على الضفة المقابلة وتقلّصَ هامش الرؤية الموضوعية الوسط .

 

حين ننظر لمسيرة البشرية التاريخية في تطورها الفكري  والاجتماعي بتسلسل مترابط نستطيع أن ندرك أن ما وصلت اليه الثقافة الغربية في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتطور التقني إنما يعبّر عن مرحلة بلغتها الإنسانية ككل في مسيرتها ويجب أن تتناغم و تتفاعل معها مجتمعات العالم فليس من الصحيح أن نعتبر أن الغرب هو الذي يفرض علينا ثقافته وقيمه وإنما التطور الفكري في مسيرة الإنسانية بلغ على يد الغرب مرحلة يحتاج المجتمع البشري لاستيعابها والتفاعل الإيجابي مع معطياتها . ومن الطبيعي أن المسيرة البشرية يجب أن تصل في تطورها الفكري لا سيما في عصر العولمة الى رشد يقودها نحو المشترك الإنساني الذي يتسامى على الانتماءات والثقافات والعادات . إذا لم يحصل التفاعل الإيجابي مع الحداثة انطلاقا من الرؤية المتقدمة  فإن الموقف السلبي سيتحول الى تحدٍ للحضارة الحديثة بل الى قوة تجر المجتمعات الى الوراء وهذا جوهر الصدام الحضاري الذي تدفع البشرية وعلى رأسها مجتمعاتنا ضريبته .. لا أحد ينكر وجود مفارقات وسلبيات لدى الغرب على عدة مستويات لكننا يجب أن لا نتورط في التعميم ويجب ألا نهمل وجود عملية النقد الذاتي لدى الغرب نفسه والتي رافقت الحضارة الغربية منذ قيامها والى الآن ويجب أن نعترف بالآثار التي أحدثتها مواقفنا السلبية كأمة من الغرب وحضارته عند الغربيين والتطرف المشبع بالعدوانية والعنصرية الموجود في ثقافتنا ضد الغرب والذي أوجد رد فعل سلبي استغلته جهات معادية لنا في الغرب ويجب أن لا نغفل عن حقيقة أن تناقضاتنا الداخلية وأوضاع التردي التي عشناها ونعيشها  أدت الى ضعفنا  في ميزان القوى الذي تُبنى في ضوئه السياسات . 

 

أعتقد أننا بحاجة الى مقاربات جديدة ومختلفة عن الطرح النمطي الذي ساد لدى المؤدلجين في القرن العشرين بشأن الموقف من الحضارة الغربية التي يجب أن تكون نخبنا الثقافية التي تتمتع بالنضج الحضاري والانفتاح الإيجابي طرفا معها في صياغة ثقافة عالمية تنطلق من التطور الذي بلغته هذه الحضارة عبر حوار تفاعلي معمق بنّاء مع الغرب . لقد دعوتُ منذ التسعينيات الى الحوار العربي - الغربي ليس على المستوى السياسي فحسب وإنما على المستوى الفكري والثقافي فلا بد من تجسير العلاقة بين النخب الفكرية العربية التي تتسم بالاعتدال والاستيعاب للواقع الثقافي العالمي والنخب الفكرية الغربية بكل تنوعاتها المعرفية وأن يكون هناك باستمرار حوار حضاري راقٍ لصياغة ثقافة تساهم في بناء مجتمع بشري متماسك على أساس الحرية والمساواة والتآخي يرفل بالعدل والمعرفة والرقي .




تعليقات

أحدث أقدم