لذة العفو عند أهله

مشاهدات


موفق العاني 

 

يقول الله جلَّ وعلا : (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) وقد عفا النبي صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم عن عكرمة بن أبي جهل الذي قاتله عشرين عاماً وقالت العرب : العفو من شيم الكرام .. وفي هذه القصة نجد لذة العفو في نفس العافي عندما يكون أهلاً لمثله وهو قادر على ثأره .. لما تولى المأمون بن هارون الرشيد أمر الخلافة  لم  يبايعه عمه إبراهيم بن المهدي وذهب إلى الري في خراسان فادعى الخلافة لنفسه وبقي على ذلك لمدة سنة و11 شهراً . فلما يئس المأمون من عودته إلى الطاعة وانتظامه في سلك الجماعة توجّه بخيله وركبه إلى الري للقبض عليه وعندما بلغ إبراهيم الخبر لم يسعه إلا أن يهرب إلى بغداد ويختفي فيها فجعل المأمون لمن يدل عليه مئة ألف دينار ..

 

ويروي ابراهيم عن نفسه : دخلت بغداد وفي أحد أزقتها وجدت رجلاً يجلس على باب داره وطلبت منه البقاء عنده هذا الليل فرحب وأكرمني ثم قال : يامولاي هذا المكان أمان لك فقلت له : هل تعرفني ؟  قال : يامولاي هل يخفى القمر انت مولاي ابراهيم بن المهدي  وبقيت عنده أياماً يسامرني وأسامره . وذات يوم خرجت متنكراً  وأردت أن أعبر الجسر فنظرني جندي ممن كانوا في خدمتي فعرفني وصاح : هذا طلب أمير المؤمنين المأمون ثم تعلق بي فأوقعته على الأرض وهي موحلة فصار عبرة لمن يعتبر وتبادر الناس إليه فتركته وأسرعت في مشيتي حتى قطعت الجسر ثم دخلت شارعاً فوجدت امرأة واقفة في دهليز دارها فسألتها : هل لك أن تحقني دمي فإني مطلوب للقتل ؟ فأجابت : لا بأس عليك واطلعتني إلى غرفة فرشتها لي ثم قدمت لي طعاماً قائلةً : ليهدأ روعك وبينما هي كذلك إذا بالباب يدق دقاً عنيفاً خرجت وفتحته وإذا بالداخل صاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدوخ الرأس ودمه يجري على ثيابه فسألته : ماذا دهاك ؟ أجاب : كنت ظفرت بإبراهيم بن المهدي لكنه أفلت مني وأخبرها بما جرى فأخرجت له خرقة عصبت بها رأسه وفرشت له فنام . ثم جاءتني وقالت لي : أظنك صاحب القضية ؟ فأجبتها : نعم فتابعت : لا بأس عليك ولم تزل تكرمني ثلاثة أيام ثم قالت : إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع عليك فتقع في ما تخافه فانج بنفسك فسألتها المهلة إلى الليل فقالت : لا بأس بذلك وعند المساء خرجت متنكراً بزي النساء فأتيت إلى بيت مولاة كانت لنا فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله تعالى على سلامتي وخرجت كأنها تريد السوق لشراء ما يلزم لي وبعد قليل فوجئت بإبراهيم الموصلي جاء بغلمانه وجنده والمرأة أمامهم ثم أشارت لهم عليَّ فأمسكوني وحملوني وأنا ما زلت في زي النساء الذي كنت به إلى المأمون فعقد مجلساً عاماً وأدخلني إليه . لما دخلت وسلمت عليه بالخلافة قال لي : لا سلمك الله ولا حياك فقلت له : على رسلك يا أمير المؤمنين إنك ولي الأمر فتحكم بالقصاص أو العفو . ولكن العفو أقرب إلى التقوى وقد جعل الله عفوك فوق كل عفو كما جعل ذنبي فوق كل ذنب فإن تأخذ فبحقك وأن تعفّ فبفضلك .. 

 

فأطرق المأمون وسأل كلَّ الحاضرين عن الذي أستحقه منه ؟ وقد أجابوا كلهم وأشاروا عليه بقتلي !! وكنت لا أشك بعد ذلك إلا إنه قاتلي فقام من مكانه وسجد وأطال في السجود  ولما رفع رأسه من سجدته التفتَ نحوي وقال : أتعلم لمَ سجدتُ ؟ قلتُ : شكرتَ الله الذي أظفرك بعدوك والخارج عن طاعتك !!  فقال : ما أردت ذلك ولكن شكرت الله الذي ألهمني العفو عنك ياعماه فاجلس ولا تثريب عليك !!  وكان فرحاً بعفوه أكثر من فرحه بالقبض على عدوه لأنه أهل له !!!!!

 


 

تعليقات

أحدث أقدم