محمد قواص
كاتب سياسي لبناني
يعود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بلاده منتشياً بما حققه في عقد النسخة الثانية من "مؤتمر بغداد". يفتخر بأن هذه الآلية ترتبط بشخصه وبسعيه لتعزيز سياسة فرنسية في المنطقة . سبق للرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي أن اجتهد وجاهد عام 2008 من أجل إقامة "الاتحاد المتوسطي" كأداة ابتكرها لتنشيط دبلوماسية باريس في الشرق الأوسط فإين هو هذا الاتحاد المزعوم ؟ والحال أن همّة ماكرون هي التي قادت إلى جمع ممثلين بمستويات مختلفة لدول معنية بالشأن العراقي سواء اقتربت جغرافيتها من العراق أو ابتعدت عنه. والواضح أن كافة المشاركين لبّوا الدعوة العراقية-الفرنسية -الأردنية إكراماً للمبادر الفرنسي من دون أي أوهام وطموحات بتحقيق إنجازات لافتة . لم يكن ماكرون ينتظر المعجزات من المؤتمر الذي عقد في 20 ديسمبر في البحر الميت في الأردن . يودّ الرجل أن يجد لبلاده مكانا ومكانة ما في المنطقة من البوابة العراقية وهو الذي يواجه العثرات من بوابات لبنان وشمال أفريقيا . يطمح مع المضيف عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني، في لعب أدوار مستحيلة في السهر على توفير وصل صعب بين بلدان المنطقة .
تودّ فرنسا كما الصين والولايات المتحدة وروسيا ودول أخرى نسج علاقات مع / وبسط نفوذ لدى كافة البلدان الأساسية في المنطقة من دون التورّط في خلافاتها والانحياز إلى انقساماتها. وفي ما صدر عن الرئيس الفرنسي من إدانة لتدخل "تمليه قوى أجنبية" ما يشبه كافة مواقف المشاركين العرب الذين تناوبوا على تأكيد رفض التدخل الخارجي في شؤون العراق ودول المنطقة. لكن دبلوماسية الحياد الانتقائي الذي تنتهجه باريس وواشنطن ولندن وغيرها كما بكين وموسكو لا تساعد أبدا على وقف هذا التدخل الخارجي . والحال فإن هذا التدخل سيبقى مستمرا طالما أنه من دون رادع ميداني ولا عواقب إقليمية ودولية . فآليات الردع ما زالت غائبة وسط انقسام وتفاوت في التعامل مع أشكال التدخل الخارجي . فما هو تدخل ترتكبه إيران أو تركيا أو غيرها هو وجهة نظر لا تحظى بإجماع عربي. فيما يهتم منسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بإعادة الروح إلى اتفاق نووي مع إيران يصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بالميت على هامش مؤتمر تجمع مواقف المشاركين فيه على إدانة سلوك طهران واستنكار غلاظة أخطارها على دول المنطقة . لم يسمع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان المواقف العربية الفرنسية المنتقدة للتدخل الخارجي في شؤون العراق والمنطقة . لم يعتبر نفسه معنيا أساسا بنقاش "بديهيات" سياسة طهران في الشرق الأوسط من بغداد إلى صنعاء . راح الرجل الذي استعاد ذكرى قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس يروّج لخطاب حمائمي سواء في الاستعداد للعودة إلى اتفاق فيينا بشأن برنامج بلاده النووي، أو في الاستعداد لتطبيع علاقات بلاده مع كل بلدان المنطقة لا سيما السعودية .
سبق لإيران أن استنكرت التدخل التركي في شؤون العراق من دون أن يصدر من بغداد ضيق من قيام طهران بلعب دور يفترض أن يكون مقتصراً على سلطاتها. ولئن أنصت ممثل تركيا في المؤتمر السفير التركي في الأردن إسماعيل يلماز للمنتقدين للتدخل الخارجي فإنه بدوره فهم مقاصد تنال من إيران وليس من تركيا حتى أنه اشتكى من تدخل في شؤون بلاده من خلال مخاطر الإرهاب التي تنطلق من الدول المحاذية ضد بلاده . لا شيء يقنع الحضور أن العراق جاهز أساسا لكي يكون مستقلا في قراره عن أجندة طهران . ولا أحد اقتنع بقدرة رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني وهو مرشح "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران على الايفاء بوعده بأن "لا تسمح بلاده باستخدام أراضيها لانطلاق أي تهديد لدول الجوار". ولا جديد مقنع في مواقف وزير الخارجية الإيراني بشأن حسن الجوار والتعاون والحوار. ولا تعويل جدي على ما هلل له من استئناف لحوار سعودي إيراني لطالما اعتبرته الرياض "استكشافيا". المؤتمر في نسخته الثانية وربما في نسخته الثالثة التي ستستضيفها مصر هو محاولة لتشكيل نظام أمني إقليمي ما زال معقدّا وعصيا. سبق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن حاول تسويق فكرة من هذا النوع لدى دول المنطقة من دون نجاح. وسبق لمنابر إيران الرسمية لاسيما وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف أن دعا إلى ذلك أيضا من دون أي صدى . وسبق للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن لمّح إلى تشكيل "ناتو" للشرق الأوسط من دون أن تتحول الدعوات إلى واقع جدي . آلية مؤتمر بغداد لن تتجاوز حدودا تتوسّع وتتقلص وفق الظروف الجيوسياسية المتحوّلة. يكفي تأمل التحولات في العراق والمنطقة والعالم لنستنتج بسهولة تراجع الآمال ومستوى التمثيل وانخفاض التعويل على مآلات حميدة . العلّة بإجماع المؤتمرين تكمن في التدخلات الأجنبية تلك التي تبقى مجهولة يشوبها تعميم خبيث فلا اجماع عربي في التصدي لها ولا إرادة دولية جادة في محاصرتها. ولئن تشتد تناقضات بلدان المنطقة على نحو يحول دون اتفاقها على نظام إقليمي حول العراق فإن رعاية دولية تتولاها فرنسا فقط ليست كافية لإقناع شركاء المؤتمر بإنجاز ما يتجاوز قدراتها .
المصدر : عربي-sky-news
إرسال تعليق