زمن فائق حسن

مشاهدات



إنعام كجه جى


أخذه خاله معه وهو يافع ليساعده في عمله وكان الخال بستانيا في حدائق القصر الملكي في بغداد وبدل ان يشتغل الولد بتشذيب شجيرات الورد فإنه كان يجلس ليرسمها . نزل الملك فيصل الأول إلى الحديقة ورأى صبيا نحيلا نحيفا غامق السمرة يرسم بطريقة مدهشة في دفتر مدرسي . بعد يومين استدعاه وطلب منه أن ينقل رسما كان معلقا في إحدى صالات القصر ونجح صبي البستاني في الاختبار بحيث ان ضيوف الملك لم يتمكنوا من التمييز بين الأصل والتقليد. قال له الملك إنه سيرسله في بعثة لدراسة الفن في الخارج بعد أن ينجح في المدرسة . ذلك كان زمنا آخر أوائل ثلاثينات القرن الماضي وحين انهى التلميذ الدراسة كان فيصل قد غاب عن الدنيا لكن ولي عهده الملك غازي التزم بالوعد وأرسله ليدرس الفنون الجميلة في باريس . لم يكن فائق حسن الولد الفقير الذي سيصبح أكبر رسامي العراق يمتلك سوى سروال واحد قديم تنادى الاصدقاء وجمعوا له حوائج السفر . 

 

مضى إلى الشام عبر البر ومنها إلى بيروت ليأخذ الباخرة إلى مرسيليا . أمضى أيام الرحلة وهو يرسم ما تقع عليه عيناه وكان بعض المسافرين يشتري رسومه وتخطيطاته رأى الصحراء والبحر تعلق بالأولى وأصبحت موضوعه المفضل ولم يرسم البحر إلا نادرا . في باريس تعرف على زميل لبناني اسمه صليبا الدويهي (صار علما في دنيا الفن فيما بعد) أخذه صليبا ليقدمه إلى أستاذه لؤي روجيه . شاهد الاستاذ تخطيطات الشاب العراقي فقبله على الفور طالبا عنده . كانت باريس تتأرجح بين حربين انبهر بها وشاهد نساء حقيقيات وكانت المرأه عنده كيانا غامضا وراء سواد العباءة. أمضى نهاراته في اللوفر ينقل لوحات كبار الرسامين يقول إنه تعلم خارج المعهد أكثر مما تعلم في صفوف الدرس ولما عاد الى بغداد قبيل إشتعال الحرب العالمية الثانية أسس قسم الرسم في معهد الفنون الجميلة وكان ذلك عام 1939. في بيت رفيقه جواد سليم بمحلة البارودية كانوا يجلسون تحت الدرج ليستمعوا إلى اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية. أسس فائق حسن وجواد وعدد من زملائهم " جمعية أصدقاء الفن" وظهرت ملامح مدرسة بغدادية في الرسم جعلت من حياة الشارع موضوعها المفضل . 

 

صار فائق حسن واحدا من أبرز رسامي العالم في استخدام الألوان تخرج على يديه مئات الطلبة وما زال له عشرات المقلدين، كان يقوم برحلات إلى البادية ينقطع فيها أياما ليرسم الخيالة الأعراب والجياد الأصلية والوجوه التي لوحتها الشمس رجال لوحاته يشبهونه في الدكنة وحدة النظرات وكانت لوحاته تحجز وتقتنى مسبقا وقبل أن يرسمها . اقترن فائق حسن بزوجة من فرنسا وكان له منزل فيها يقضيان فيه الصيف جاء في إحدى المرات مع وفد فني إلى باريس وهرع زملاؤه إلى الأسواق يقتنون الملابس وقال إن سترته التي رافقته مذ ثلاثين سنة لن يشتري غيرها حتى تبلى تجولنا في الحي اللاتيني وكان يتأمل مدينة تغيرت ومات كل من عرفهم فيها ولما زرته في بيته في بغداد قبيل رحيله رأيته مشغولا بتلقيح نخلات الحديقة كان يجيد الرسم والبستنة والنجارة والخياطة والطبخ وتصليح الكهرباء وتسلق النخيل ولما أراد رفيق عمره جواد سليم أن ينحت له تمثالا اختار ان ينحت كفيه لا َوجهه . مات فائق حسن في فرنسا شتاء  2002 وكانت الرحلات الجوية محظورة إلى العراق أوصى بحرق جثمانه وذر الرماد في دجلة أغمض عينيه قبل أن يرى زمنا يعترضون فيه على تدريس الرسم في معاهد الفنون .

تعليقات

أحدث أقدم