قراءة أولية لهذا الجنوب السياسي المستجد !

مشاهدات


محمد قواص

كاتب سياسي لبناني


تكشف الحرب في أوكرانيا عن تصدّع في خطوط الاصطفاف في العالم من دون أن يستشرف ذلك أي انقسام واضح المعالم بين شرق وغرب أو بين جنوب وشمال . يمكن المخاطرة في ملاحظة أن طبيعة الحرب وتوقيتها وشكلها وتطوّرها لم تكن متوقعة وأن الفعل وردّ الفعل بين المتحاربين كما لدى عواصم العالم  يتّسمان بكثير من الارتجال المبني على رصيد سابق من الانفعال .  في الذاكرة واللاوعي هذا الموقف المتجذّر القديم الكاره للغرب من قبل الآخرين ما يعيد إنعاش الكتاب الشهير الصادر عام 1975 The West and the rest of us للكاتب والمفكر Chinweizu لم يكن أمر الانشقاق واضحاً حتى في عزّ الحرب الباردة . انقسمت دول العالم الثالث في اصطفافاتها آنذاك بين غرب ليبرالي وشرق شيوعي بحيث أن التعسكّر قام على قواعد إيديولوجية لم تأخذ بالاعتبار التقييم الطبقي الذي قام عليه الفكر الماركسي ومدارسه الغربية والشرقية . وفي استمرار غياب الايديولوجيا يحشر الغرب الصراع الحالي في / وحول أوكرانيا داخل ثنائية الديمقراطية والاستبداد. ووفق ذلك الغياب تنطلق مواقف الجنوب بالمعنى السياسي غير الجغرافي (الذي لا يمكن اعتبار روسيا والصين جزءا منه) من مُشتركات لكره ذلك الغرب والكفر بهيمنته يكفي تأمل حال ما يقارب 40 دولة امتنعت عن التصويت في الجمعية العام للأمم المتحدة على قرار يدين روسيا لنستنتج أنها تمثل 53 بالمئة من سكان الأرض . 

 

والمفارقة أن موقف الحياد لا يعبّر عن التحاق محتمل وحقيقي بالتحالف الصيني الروسي بل عن موقف جماعي ولحسابات مختلفة لمعاندة تلك الهيمنة التي يمتلكها الغرب منذ قرون والتي لم ينهها زوال فترة الاستعمار . واللافت أن الموقف من الغرب من قبل هذه الدول يجمع ما بين الوعي الشعبي التقليدي العام ومصالح الأنظمة السياسية على السواء . قد يكون مثيرا للحيرة أن الولايات المتحدة على رأس المنظومة الغربية متفاجئة من انحلال اصطفافات كانت تعتبرها مكتسبة عضوية لا غبار عليها . حتى أن ردّ الفعل في واشنطن يُظهر تبرّما وغضباً يعبّر عما وصل إليه صاحب القرار هناك من ضيق وقصر نظر وعجز عن فهم هذا العالم بعيداً عن مسلّمات أضحت بالية متقدمة . يخال لنا أن واشنطن وحلفاءها فقدوا القدرة على المراقبة والتوقّع والاستشراف والأكثر من ذلك عجزوا عن استيعاب موجات الحرد التي يفضحها الموقف من الحرب في أوكرانيا . والمفارقة أن دول الخليج ومصر والهند وتركيا ودول في أفريقيا وأميركا اللاتينية هي التي تراقب عن كثب الولايات المتحدة وليس العكس وترصد قدراتها على قمع موجات الاعتراض الدولي ومعاقبة أصحابه . والحال أن موقف واشنطن من قرار منظمة أوبك+ برفع انتاج النفط يقدّم مثالاً مزدوجاً بشأن خروج 23 دولة عن سرب تعتبره الولايات المتحدة من ثوابت النظام الدولي وبشأن تخبّط الولايات المتحدة وحدها دون حلفائها في كيفية التعامل مع هذا المستجد . بالمقابل يتحرك هذا الجنوب السياسي برشاقة مريحة ويمتلك زمام المبادرة في اللعب داخل هامش مناورة بين معسكر غربي تواقٍ إلى صلابة مهجوسٍ بالتشققات الكامنة في صفوفه من جهة ومعسكر غير واضح المعالم يجمع الصين وروسيا في هذا الوقت على الأقل . فكافة الدول التي تعاند واشنطن لا تنحاز إلى روسيا ولا تدعم حربها في أوكرانيا وهي متخلّصة من أي انحياز إلى الصين لا تشترطه بكين من جهة أخرى . وإذا ما استخفّت روسيا في البداية بحربها ضد أوكرانيا واعتبرت أن نصرها كدولة عظمى منطقيّ آليّ  وحتميّ وأن الدعم الغربي الشامل لأوكرانيا لا يعمل إلا على تطويل أمدّ الحرب فإن الولايات المتحدة بدورها بدأت هذه الأيام تنظر إلى حالة الحياد أو تفهم موقف روسيا (دون التطرق إلى حالة الدولة المنحازة بشكل كامل إلى جانب موسكو) بصفتها سببا جديدا لإطالة أمد هذه الحرب . 

 

ولئن من الصعب أن ينقشع الضباب عن خرائط نظام دولي جديد فإن العالم بأجمعه في حالة صدمة حائر على الأغلب في كيفية ترميم النظام الدولي الراهن من دون أي زعم بالقدرة على تغييره أو الانقلاب عليه وابتكار بدائل عنه . وإذا ما أثبتت حرب أوكرانيا عجز روسيا المطلق عن تدشين نظام دولي جديد حتى لو وعد الرئيس فلاديمير بوتين بذلك فإن ما تمخّض عنه المؤتمر العام للأخير للحزب الشيوعي في الصين وهي الاكفأ على الطموح بذلك يعكس نزوعا نحو إدارة الصراع الدولي من دون أي آفاق أو رغبة أو إرادة أو قدرة على تغيير قواعد النظام الدولي الراهن . وعلى أساس ما قد يكون صلبا في ثباته باتت دول الجنوب السياسي من أقصى آسيا إلى أقاصي أميركا اللاتينية مرورا بأفريقيا والشرق الأوسط تتحرى تغييرا في قواعد اللعبة تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى التي عبّرت عنها الدول المنتجة للنفط أو تلك التي تتظلل بتحالف بريكس أو حتى تلك المفترض أنها كانت تدور في فلك موسكو وباتت مثل كازخستان وأذربيجان وطاجكستان وغيرها تجاهر بالتحفظ وأخد مسافة عن مزاج الحاكم في الكرملين . والواقع أن حرب أوكرانيا وعلى عكس دعوات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى اعتبارها عادية كأي صراع في أفريقيا أو الشرق الأوسط تنهل أهميتها الدولية مما سيستتبع مآلاتها الأخيرة على المنظومة الدولية وما ستنتجه من توازن قوى ربما غير مسبوق ستنتهي عواصم الغرب كما موسكو وبكين إلى قراءة مخارج هذه الحرب جيدا وبناء استراتيجياتها المقبلة وفق معطى قيام جنوب سياسي هو جزء من مفاجآت تلك الحرب الذي كان عصيّا استشرافه قبل ذلك . 


المصدر :عربي-sky-news

تعليقات

أحدث أقدم