سليمان صالح
أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة
دراسة تاريخ السينما توضح أن الدول استخدمتها لبناء قوتها السياسية وللتأثير على الشعوب لذلك تم تطوير علاقة إستراتيجية بين شركات الإنتاج السينمائي والنظام الأميركي بكل مؤسساته وعلى رأسها وزارة الخارجية . وفي إطار تلك الشراكة استخدمت الإدارة الأميركية السينما لنقل رسائلها إلى الشعوب وبناء صورة إيجابية لأميركا وتشويه صورة الأعداء وتحديد الدول التي يمكن الثقة فيها وبناء العلاقات معها لذلك يرى روبرت جريج أن أفلام السينما تعد النوافذ التي نرى منها العلاقات الدولية .
تطبيع العلاقات والثقافة الشعبية
تشير عالمة السياسة الأميركية سنثيا ويبر إلى عامل مهم في بناء العلاقات الدولية وتطبيع العلاقات بين الدول عن طريق غرس الأفكار ووجهات نظر دولة معينة في الثقافة الشعبية وهذا يوضح أهمية دراسة العلاقة بين السياسة والثقافة الشعبية وتحقيق الاتفاق حول هذا الخطاب . يقول الباحث التركي علي فؤاد شينجول في رسالته للماجستير المقدمة إلى جامعة الشرق الأوسط التقنية : إن السينما وسيلة أيديولوجية وإن هناك علاقة معقدة بين الأفلام والقوة فالأفلام تحدد مَن نحن في مواجهة الآخر .
المعاني الخفية والدعاية القومية
تمكن صنّاع الأفلام من تطوير أساليب لإخفاء الدعاية القومية وغرس المعاني في نفوس المشاهدين . وعلى سبيل المثال تدفع هوليود المشاهد للاعتقاد بأن أميركا القوة العظمى التي تتحمل المسؤولية عن أمن العالم . هذا المعنى الخفي يخدم أهداف الولايات المتحدة في دفع العالم لتقبل دورها بوصفها محركا للأحداث وفاعلا في بناء العلاقات الدولية كما يجعل المشاهدين في الدول الضعيفة يتقبلون التبعية الأميركية بوصفها تسليمًا بالواقع . ولقد تضمنت كثير من الأفلام الغربية التي تم إنتاجها عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 هذا المعني . وهكذا أصبحت الدعاية القومية تدخل بشكل غير مباشر إلى أذهان المشاهدين ويتم إخضاعهم لمنظومة من الأحكام والقيم التي تريد الولايات المتحدة فرضها على العالم .
بناء المشهد العالمي
لقد استخدمت الولايات المتحدة السينما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لبناء مشهد عالمي تحتل فيه مكانة القوة العظمى ولتطبيع سياساتها الخارجية وتوفير الأساس الأخلاقي السياسي لقراراتها وأعمالها عن طريق الترويج لمجموعة من المعاني الخفية التي تتضمنها الأفلام . على سبيل المثال فإن الرسالة الرئيسية التي تحملها أفلام مثل "يوم الاستقلال" (1996) و"أرمجدون" (1998) هي أن أميركا مركز الكون وبالتالي فإن تدمير واشنطن يعني تدمير العالم لذلك يتحمل الأميركيون عبء إنقاذ العالم حتى من أيدي الطبيعة نفسها فالولايات المتحدة تستخدم الأفلام لترسيخ فكرة أن الأميركيين يتحملون المسؤولية عن إنقاذ الجنس البشري وأن واشنطن مركز العالم . ويوضح ذلك العلاقة القوية بين أهداف السياسة الخارجية الأميركية وشركات الإنتاج السينمائي وأن هذه الشركات تعمل لفرض السيطرة الأميركية على العالم ودفع الشعوب لتقبل التبعية للمركز الذي يعمل على إنقاذ البشرية .
فيلم أرمجدون: الشعوب تبتسم لأميركا
في الفيلم الأميركي "أرمجدون" يتحمل الأميركي القوي مسؤولية إنقاذ الأرض من الدمار ولا أحد في العالم يستطيع أن يفعل ذلك سواه لذلك تبتسم له شعوب الأرض وهو يتقدم ليتحمل المسؤولية ويواجه التحدي كما أن شعوب العالم غير واعية بالأخطار التي تواجهها . هذا المعنى الخفي يتكرر أيضا في فيلم" يوم الاستقلال" فالشعب الأميركي هو الشعب الوحيد القادر على إنقاذ العالم، وهذا الشعب يعرف مسؤوليته ويستطيع أن يتحملها .
السياسة السينمائية الامريكية
من تحليل الأفلام الأميركية يمكن أن نكتشف أهداف السياسة السينمائية الأميركية والدعاية القومية الأميركية التي يتم ترويجها بشكل غير مباشر في الأفلام ومن أهم المرتكزات التي تقوم عليها هذه الدعاية ما يلي : مسؤولية الولايات المتحدة في إنقاذ الأرض وحماية العالم .
الولايات المتحدة هي البطل العظيم (سوبرمان) .
الشعوب لا بد أن تكون سعيدة بدور الولايات المتحدة لأنه يهدف إلى حمايتها وإنقاذها . الولايات المتحدة تمثل "الخير" بينما يمثل أعداؤها "الشر".
السينما مشروع قومي أميركي .
في ضوء ذلك يمكن أن نفهم مقولة الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت "السينما مكون اقتصادي واجتماعي مهم في المشروع القومي الأميركي". وبتوجيه من روزفلت قامت شركات الإنتاج السينمائي بدور مهم في الحرب العالمية الثانية بالتأثير على اتجاهات الجماهير وتصوير البطولة الأميركية وتهيئة الشعوب لتقبل السيطرة الأميركية على العالم . وخلال الحرب الباردة، لعبت السينما الأميركية دورا مهما يوضح مكانتها في المشروع القومي الأميركي ووظيفتها السياسية والدعائية. ولقد أوضحت الحرب الباردة أن السينما قوة تستخدم في التأثير على معتقدات الشعوب وتوجيهها، فلقد قامت السينما الأميركية بشن الحرب الدعائية والأيديولوجية على الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية وشكلت حالة العداء للشيوعية في الدول الغربية .
التحليل السياسي للرسائل السينمائية
هذا الدور الذي قامت به السينما الأميركية خلال الحرب الباردة يوضح أهمية دراسة الأفلام بمنظور تحليلي سياسي يهدف إلى اكتشاف الأفكار والرسائل التي تعمل السينما على غرسها في أذهان الشعوب والتي تشكل أساسًا لبناء العلاقات بين الدول وأن تلك الأفكار يمكن أن تكون أكثر تأثيرًا من أسلحة الدمار الشامل فلقد أسهمت السينما في تفكيك الاتحاد السوفياتي وتحقيق النصر الأميركي في الحرب الباردة . لكن ذلك يشكل مجرد مثال للدور الذي تقوم به السينما في بناء العلاقات الدولية وتشكيل صورة العالم في أذهان الشعوب .
دائمًا على حق
لقد بنت السينما صورة أميركا على أنها دائمًا على حق ونزعت الصفة الإنسانية عن الأعداء وأثارت الكراهية للدول المعادية والخوف منها كما تقوم السينما ببناء الحدود بين "الأنا" و"الآخر". السينما الأميركية تعمل بشكل عام على إضفاء الشرعية على السياسة الخارجية الأميركية وعلاقاتها بالدول وأنها يجب أن تسيطر على العالم لتقوم بمسؤوليتها العالمية في إنقاذه والدفاع عن الشعوب الطيبة ضد الدول الشريرة .
علاقات دولية في إطار السيطرة
في ضوء ذلك تتم صياغة العلاقات الدولية في إطار نظام دولي يقوم على تبرير السيطرة الأميركية وتلعب السينما دورها في بناء نظام العلاقات الدولية عن طريق دفع الشعوب لتقبل الأسس الأيديولوجية للسيطرة الأميركية. ولقد بنت أميركا إستراتيجيتها السينمائية بعد الحرب العالمية الثانية لتؤكد مشروعية السيطرة الأميركية على العالم وأنه من الطبيعي أن تخضع لها الدول الضعيفة وتقبل التبعية لها بوصفها الممثل القانوني للعالم .
الوظيفة الأيديولوجية للسينما
توصل الباحث التركي علي فؤاد شينجول لنتيجة مهمة هي أن صناعة السينما الأميركية تقوم بوظيفة أيديولوجية وتعمل لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية ومن أهم مكونات هذه الوظيفة الأيديولوجية تصوير هوية الدولة الأميركية , كانت للسينما الأميركية مكانتها في النظام الأميركي فهي مؤسسة تقوم بدور لا يقل أهمية عن أية مؤسسة أخرى ويتكامل دورها مع هذه المؤسسات وأنها قوة سياسية تستخدمها الولايات المتحدة في فرض سيطرتها على العالم وهذا يوضح الدور الذي تقوم به السينما في بناء العلاقات الدولية فالدول تعمل في سياق يقوم على صور ذهنية ونمطية أسهمت السينما في غرسها في أذهان الشعوب .
خرافة التسلية
يوضح ذلك أن مقولة : إن التسلية هي الهدف الرئيسي للسينما وإن الفن للفن خرافة روجت لها شركات السينما الأميركية لتخفي بها الدعاية غير المباشرة والمعاني الخفية التي تعمل الأفلام على غرسها في أذهان الشعوب ومن أهمها أن الدول يجب أن تخضع لسيطرة أميركا وتقبل التبعية لها فهي مركز العالم . لذلك لا بد أن تقوم الدول بصياغة علاقتها بكل دول العالم على هذا الأساس وأن تبتعد عن بناء تحالفات لا ترضى عنها الولايات المتحدة حتى لا يتم تصنيفها في محور الشر الذي تعمل أميركا لحماية الشعوب من خطره وتهديده . وهكذا هيأت السينما الأميركية أذهان الشعوب لتقبل الاستعمار الجديد والنيوليبرالية والرأسمالية والسيطرة الأميركية ودفعتها إلى عدم التفكير في الثورة على ذلك الواقع المر وعدم مقاومة الاستغلال الرأسمالي . إنها سينما تصنع الواقع الذي تبني الدول علاقاتها فيه وتفكر في إطاره لكن بناء المستقبل يحتاج إلى الثورة على هذا الواقع وعلى ثقافة العبودية والخضوع لأميركا لبناء تحالفات عالمية جديدة .
المصدر : الجزيرة-نت

إرسال تعليق