كيف أصبح الغباء من فنون الحكم

مشاهدات

ضرغام الدباغ

 

يصبح الغباء نعمة لمن يتمتع به ومن يتمتع بالذكاء نقمة وتصبح أبيات شعر المتنبي حكمة ...


ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ....... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم


وعن تعين الحمير في دوائر الدولة يحكى أن ملكاً في سالف الأيام (وربما يحدث ذلك في كل آن وأوان) أراد أن يغادر عاصمته في رحلة صيد ورحلات الصيد تستغرق أياماً عديدة لذلك أستدعى الملك منجميه وحكماؤه وسألهم عن طالع السفرة إن كانت موفقة من حيث الطقس والصيد ومتعة الرحلة فأجابوه مولانا السلطان إن كل  شيء على ما يرام فأمض موفقاً . فخرج الملك وبعد أن أبتعد مسافة ساعات عن العاصمة قابله فلاح يقود حماره وانحنى وحيا جلالة الملك فسأله الملك عن أحواله فقال له الفلاح : مولاي الملك عد إلى عاصمتك فستقابلك رياح وعواصف عاتية تعبث بالركب الملكي وستلاقون مشقة كبيرة للعودة إلى عاصمتك فعد قبل العاصفة . فسخر الملك من الفلاح وهو من كان قد أستخار حكماؤه ومنجميه ومضى قدماً في رحلته . وبعد يوم من المسير هبت العواصف والأمطار والرياح العاتية فتفرق المركب الملكي شذر مذر وعانوا الأهوال حتى استطاعوا العودة بعد مشاق للعاصمة . 

 

ومن فوره قام الملك بعزل حكماؤه ومنجميه وأرسل من يبحث عن الفلاح فوجدوه ومثل الفلاح أمام الملك وأخبره الملك : 

لقد عزلت كل مستشاري وقررت تعينك كبير العلماء والحكماء والمنجمين والمستشارين لأنك نصحتني نصيحة  ثبتت صحتها وعلمت بالعاصفة والرياح قبل هبوبها .. 

فأجاب الفلاح الملك : يدوم عزك وملكك يا صاحب الجلالة لكني لست من عرف وتنبأ بالعاصفة والكارثة ... 

أجاب الملك فلنأت بمن تنبأ إذن ..

أجاب الفلاح هو يا صاحب الملك العظيم  أجلك الله حماري ... 

وهذا الحمار إذا انتصبت أذناه هي العلامة أن الطقس سيكون رائعاً والسفر موفقاً وإذا أنسدلت أذناه فتلك علامة أن الطقس سيء وينذر بالكوارث ويوم صادفت ركبكم الملكي كانت أذنا حماري مسدلتان جداً وأخبرتك بما تنبأ حماري ..

فقال الملك : وليكن فليعين هذا الحمار بمنصب كبير المستشارين ....!

ويقال أن تعين الحمير في المناصب العليا شاع منذ ذلك اليوم والعياذ بالله !

 

بالطبع أن رضا القصر عن أصناف أخرى في مهام القصر صارت عديدة منذ عصر سفرات الصيد ومنادمة الملوك والترفيه عنهم وكان هناك عنوان وظيفة في القصر " مضحك الملك " ومثلهم المهرجون وآخرون مفسروا أحلام الملك أحلام المنام وأحلام اليقظة ...!  وهؤلاء تحديداً يتمتعون بذكاء ودهاء بحيث يفسرون كالخياط الذي يفصل البدلة على المقاس ... وبالطبع الملك يفضل من الحاشية من يعرف كيف يحيك المدائح بدهاء أو يفسر الأحلام وفق الهوى والمزاج ...

 

وفي كل هذه الشخصيات لا يبدو الذكاء قضية جوهرية وبداهة الكفاءة ... وربما بالعكس قد يقضي الذكاء على صاحبه فإذا تسلل ذكي أريب إلى الحاشية واكتشف أمره فيشيع الذعر في صفوفهم والكل يعتقد أنه سيهددهم في أرزاقهم فيوسعونه لسعاً ولدغاً حتى يقضي نحبه . فيريح ويستريح ويقول الفيلسوف البريطاني برنارد شو " لا يعرف الأذكياء أي ذعر يشيعون في صفوف الأغبياء". والملك لا يرتاح إلا لصحبة الأغبياء الذين يحتملون آيات السخافة وأحلام الاباطرة فالغبي لا يمثل مشكلة فهو يصلح لكل عنوان وشعار وآفاقه ليست عريضة وواسعة فتتعب الملك . أو بالمقابل لا يقدم ملاحظات أو لا سامح الله بمقترحات تعديل أطروحات الملك .. فيقال له " ويحط .. من أنت لتضيف حتى النقطة مجرد نقطة على خطاب الملك ..." فيحتار المسكين كيف يبرر هفوته وأن حسن النية كان مقصده ولكن لعنة الله على الشيطان الرجيم الذي فوت عليه اختيار الكلمة المناسبة . وإذا مضت هذه الغلطة على خير ينحر الذبائح ويخر ساجداً شاكراً لأفضال الملك التي لا تعد ولا تحصى.


وفضائل الغبي كثيرة فهو لا يمثل مشكلة وحيثما بيناه أمراً سيبقى يستمع باعجاب مبهوراً بتوجيهاتنا السديدة ... ولا يزعجنا باكتشافه الخطأ هنا أو هناك ... فالغبي لا يمثل مشكلة لأحد ... وهل هناك أروع من هذا ...! ثم أن الغبي سيبقى شاكرا لنا الفضل لأننا اكتشفناه وأتينا به من براميل النفايات ووضعناه على رأس المؤسسة (س) أما الذكي فسيعتبر أن ما قدمناه قليل بحقه ... ولا يكف عن الثرثرة إلا عندما يغلقون فمه بقبضة من الملح ...!


تقدم مجموعة من الشبان الأذكياء لوظيفة مرموقة ولما نودي على الأول للأختبار سأل " ما هو حاصل 5 +5 " فأجاب بسرعة 10 فقيل له أنت لا تصلح للوظيفة السؤال سهل جداً ونحن نريدك أن تفكر ...! ونودي على الثاني وأعيد عليه السؤال فأجاب بعد أن فكر وحك جمجمته وقال " 10 "  فقيل له وهل هذه تحتاج لتفكير وأين المبادرات والحلول السريعة ...؟ ونودي على الثالث وسؤال نفس السؤال ولكن الشاب الثالث كان قد استفاد من تجربة زميليه فأجاب " في الحقيقة والواقع أن الإجابة تعتمد على الظروف الموضوعية للحالة موضوعة البحث كما أن رأي جلالة الملك بحنكته له العمر المديد هو الأقدر على التوجيه السديد "... بالطبع كانت الوظيفة من نصيب الشاب الثالث ..


مالم نتوصل لنظام حكم يخضع فيه المسؤول إلى المحاسبة دوريا ليعرف الناس ماذا أنجز من برنامجه الحكومي وأين أنفق أي درهم من ميزانية دائرته وبهذه لن تصبح المسؤولية الكبيرة امتيازاً بل تكليفا ثقيلاً ربما ستبرز صوره في بعض الأحيان في الصحافة والاعلام (بعض الأحيان) ولكن أقل أهمية .. بكثير .... بكثير جداً من ممثل مسرحي أو موسيقار أو كاتب شاعر أو أديب .. فهؤلاء هم في الواقع وجه المجتمع أما الوزير فهو موظف لا غير .....

 


 

تعليقات

أحدث أقدم