مؤشرات وأمل في القارئ العربي

مشاهدات


ضرغام الدباغ


بسبب صلتي القديمة بالنشر والناشرين في العديد من الأقطار العربية (العراق، قطر، لبنان، الأردن) توصلت منذ زمن بعيد (أواسط الستينات فصاعداً) إلى معرفة تقريبية لمزاج القارئ العربي . ومن بعض ما توصلت إليه من أفكار أن القارئ العربي موزع على فئات عمرية عديدة ومستويات ثقافية ومهنية ودراسية وهكذا لا يمكن بتاتاً الحديث عن مستوى أو مزاج موحد للقراء وهذا القول يصلح على كافة البلاد العربية بل وأعتقد أنه يسري على البلدان الأوربية ولكن بنسب متفاوتة فالكتاب وطبعه ونشره على نحو شعبي أقدم في أوربا واهتمامات الناس أكثر تركيزاً . 

 

ومن بين ما تعرفت عليه أيضاً منذ أن أصبحت لي مكتبتي الخاصة في البيت (1960 ــ 1961) والتردد بشكل شبه يومي على المكتبات وأصحابها صاروا أصدقاء حميمين لي أن الكتب الممتازة ثقيلة في رواجها ومع ذلك فمزاج القارئ لا يمكنك أن تتوقعه فعلى سبيل المثال بيع من كتاب روجيه غارودي "واقعية بلا ضفاف" حوالي عشرة آلاف كتاب عام 1968 وهو رقم كبير جداً في تلك الأيام وحجم مبيعاته أدهش المثقفين العراقيين يومئذ ولا أعتقد أن كاتباً آخر قد بلغه ربما كتاب الدكتور علي الوردي لمحات من المجتمع العراقي . ولكن هناك وجهاً آخر للقارئ العراقي لا يحمل على التفاؤل من خلال معرفة حقيقة أن الكتب الأكثر رواجاً هي الكتب السطحية والبسيطة المحتوى مثل : حياة العندليب الأسمر وأغانيه كوكب الشرق أم كلثوم . بل وأني أعرف من الناشرين من كون ثروة لا بأس بها من هذه الكتب (الكراسات) . وصنف آخر من الكتب رائج دائماً للأسف وهي : كيف تتعلم الألمانية (أو أي لغة أخرى) في سبعة أيام . ومن المدهش أن يؤلف مثل هذه الكتب من لا يعرف الألمانية البتة أو ربما لغات أخرى وقد وجدت شخصياً عدد لا يحصى من الأخطاء الفاحشة في مثل هذه الكتب التي تغش القارئ وتخدعه وتوهمه بأنه يمكن أن يحصل على شيء كبير بسهولة فائقة . 

 

طبعاً هناك صنف من الكتب الرائجة (وأنا بالطبع لا أعمل لها دعاية هنا) ككتب السحر والتنجيم، وكتب الطبخ، وتفسير الأحلام، أما الكتب الدينية ولا سيما الأشد ظلاماً منها ففي المقدمة دائماً . ولكن من المؤشرات الإيجابية هي ميل الناس لشراء الكتب التي تبسط فهم الكهرباء وبعض متعلقاتها اليومية أو ميكانيكا السيارات . وأذكر في بداية التسعينات أن نزل إلى المكتبات كتاب كان قد شغل العالم وأفضى إلى تحولات واسعة وهو كتاب غورباتشوف " البيروسترويكا " وكنت أتوقع أن تبلغ مبيعاته أرقام قياسية وإذا بها لا تتجاوز ويا عجباً الألف نسخة في بغداد .. ! وعلى صعيد التجربة الشخصية فالكتاب الثاني الذي طبع عام 1985 في بغداد وصدر عن دار آفاق عربية هو كتابي " قوة العمل الدبلوماسي في السياسة " وأنا شخصياً كنت أتوقع مبيعاً ضعيفاً لهذا الكتاب لأنه تخصصي لذلك لم يطبع الناشر منه سوى خمسة ألاف نسخة وكان صديق ناشر قد نصحني أن أغير العنوان وأجعله تجارياً أكثر ودبلوماسي نصحني تغير العنوان ذلك أن الدبلوماسية مناهضة ومعاكسة للقوة أما أنا فكنت أعتقد أن الدبلوماسية  قوة  بل أنها قوية للغاية بحيث أن المفاوضات الدبلوماسية قد تفضي بقذف مئات الرؤوس النووية في مكبات النفايات ولكن الكتاب راج رواجاً مدهشاً وكتبت عنه الصحافة العراقية مطولاً وبوفرة بل أن مجلة أسبوعية عربية تصدر في لندن أعتبرته من أفضل الكتب التي صدرت في الوطن العربي وهكذا نال الكتاب نجاحاً لم أكن شخصياً أتوقعه . لا شك أن عنوان الكتاب وطريقة إخراج الغلاف وغلاف الكتاب وحتى الخط يؤثر تأثيراً ملحوظاً في حجم رواج الكتاب وقد يكون رواج كتاب رائع في محتواه ولكن منخفضاً في رواجه بدرجة مؤسفة لا يستحقها وهنا يلعب مزاج القراء والعوامل الفنية الأخرى دوراً في عند رواجه . وقد لاحظت شخصياً في الآونة الأخيرة أن مزاج القارئ العربي والعراقي خاصة في طريقه إلى التحسن وبدأ الميل للإطلاع على أعمال يعتبرها أصحاب دور النشر معقدة وبطيئة الرواج موضوعات ذات طابع سياسي / اجتماعي / أدبي / فلسفي عميق نسبياً وهذا يعكس بالطبع تعطش الناس والقراء إلى قراءة مادة جيدة التي نتوقع لها أن أن تطرد المادة الرديئة كمثل القانون الاقتصادي (قانون توماس كريشام) : العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة القارئ العراقي مثقف وذو خبرة ويستحق مستوى أعلى مما هو عليه . 

 

سيكون لنا ذات يوم مزاج ثقافي راق وإني أذكر ذات يوم (أيام دراستي الجامعية في ألمانيا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات) أن كتاب مئة عام من العزلة لغابريل مارسيل بيع بألاف النسخ خلال ساعات فحسب ولم أحصل على نسخة منه إلا بشق الأنفس وكذلك بيعت بسرعة البرق أسطوانة لأعمال الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر وكذلك أسطوانة الموسيقار الإيطالي فيردي " عايدة " واليوم في أوربا ما لم تسرع لحجز نسختك من الكتاب الجيد سياسي كان أو أدبي أو فلسفي من أجل ثقافة ترتقي بإنسانية الإنسان فلن تحصل على نسخة .  وقبل فترة قصيرة راجعت أحدى أضخم المكتبات في برلين وبالكاد حصلت على النسخة الأخيرة المعروضة  للكاتب المشهور " جورج فريدمان " " المئة عام المقبلة " وكنت سأشرع بترجمته لقراء العربية لولا أني قرأت تحذيراً أن الكتاب تحت الحماية . الارتقاء بالمستوى المزاجي الثقافي للناس هي مسؤولية كافة المثقفين ينبغي أن يعمل عليها المثقفون لخدمة شعبنا ولكن لا ينبغي أن يشك أحداً أن الحياة تتجه إلى الأمام والنور يبدد الظلام حتماً فشمعة صغيرة قد تتسبب بهزيمة للظلام .... أشعلوا الشموع .. ليندحر الظلام .. يها المثقفون العرب ... أرفعوا مشاعل التنوير، تقدموا الصفوف ولا تخشوا ما قد يترتب على الموقف الطليعي .. قتل مئات وربما أكثر من المثقفين والعلماء والفنانين في عصر التنوير قضوا حرقاً، وإغراقاً، وطعماً للنبال والسهام ولأساليب تعذيب وقتل رهيبة ... ولكن لم يتراجع منهم إلا القليل القليل، وحتى هؤلاء تراجعوا دون إنكار الحقيقة .. كونوا مخلصين لما توصلت إليه عقولكم من حقائق .. كونوا مشاعل الأمة سيذكركم التاريخ .. كونوا أبطالاً ولا تهابوا حراب الجهل والتخلف وشتائمهم ولعناتهم .

تعليقات

أحدث أقدم