قمة جدة: العوامل الحاكمة لصياغة سيناريو مرحلة الصراع القادم في الشرق الأوسط؟

مشاهدات


 

الكاتب والباحث السياسي
الدكتور أنمار نزار الدروبي



تحتاج قمة جدة تلك القمة المحورية إلى وقفة إذ يقوم عليها التصور البنائي النظري والأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والجيوسياسي لمستقبل الشرق الأوسط، وفق منهجية علمية موضوعية تتجاوز الانفعالات والعواطف والاصطفاف العقائدي. بالتالي التنظير لهذه القمة يسعى إلى بناء محوري سياسي اقتصادي وربما عسكري جديد. بلا شك قد شهدت الساحة الإعلامية والسياسية بصورة عامة والعربية خاصة جدلا واسعا حول قمة جدة، حيث يتراوح فكر الأقطاب السياسية المتنوعة بين مؤيد لها وبين مناهض، فهناك اتجاه يرى أن هذه القمة تجسيد حقيقي وفعلي لقضية (التطبيع مع إسرائيل) حيث تعمل الماكينة الإعلامية لهذا الرأي على ترسيخ هذا المفهوم لدى الشعوب، وهو مفهوم لا يليق أن نستسلم له، وإنما واجب علينا البحث عن الخيار والتحليل الصحيح لهذه القمة الذي يُبنى على أبعاده الرباعية وهي (أولا، السياسة الأمريكية، ثانيا، اللحظة التاريخية لهذه القمة وليس اللحظة الآنية، وأعني بها تاريخ تسلم سمو الأمير محمد بن سلمان منصبه ولي عهد المملكة العربية السعودية، ثالثا، دلالات توقيت عقد القمة والعوامل المحركة لها، رابعا، دور العراق في القمة وتحديدا في هذا التوقيت).
 
البعد الأول: السياسة الأمريكية:
الرئيس جو بايدن صرح خلال القمة "أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن موجودة في المنطقة العربية الفترة الماضية، والآن قررت أن تشغل الفراغ لمواجهة المحور الصيني الروسي الإيراني".
والبقية ستأتي تباعا وفق سياقها حسب تطور الأحداث. أهميّة هذا القرار بالنسبة لأمريكا لحضور قمة جدة تكمن في الفرز السياسي وتبيان مسار ومعيار القوى الفاعلة ضمن حدود منطقة الشرق الأوسط خصوصا وعالميا على قاعدة فهم من معنا ومن علينا.  لكن الحقيقة هو ما أعلنه بايدن من خطة يندرج تحت مصطلح التكتيك السياسي، لأن امريكا لديها استراتيجية تتجاوز بايدن ومن قبله وحتى من بعده، وكل رئيس يمارس دوره في التكتيك السياسي ولا يسمح له بالخروج عن إطار الاستراتيجية الشاملة. لو سلمنا جدلا بأن أمريكا لم تكن لديها استراتيجية شاملة وأهداف بعيدة المدى في الشرق الأوسط، في هذه الحالة سيكون السيد بايدن محقّا في إعلانه وسنحكم على السياسة الأمريكية بأنها ضعيفة الرؤية تترنّح بين المزاج الجمهوري والديمقراطي أو التجاذب بينهما، وهذا مناقضا للسياسة والاستراتيجية الأمريكية. وعليه فإن كل ما في الأمر هو أن اللعبة تقتضي أن يتم تعليق بعض الأخطاء الكبيرة على شماعة مفهوم (استراتيجيا وتكتيك الأزمة) وهو نمط لموجات متتالية من التدخل وعدم التدخل في الشرق الأوسط كاستجابة أو عدم الاستجابة لأوضاع الأزمة وتحديدا لما تمر به المنطقة العربية من أزمات حادة، ويحتوي هذا النمط من الأزمات على آلية سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أيديولوجية، من ثم تمكنت الأزمة نفسها من التجديد وعرقلة عملية الاستقرار السياسي والمجتمعي.
من هنا أمريكا لن تسمح إن تبقى منطقة الشرق الأوسط منطقة صراعات وتجاذبات سياسية، ربما الأمريكان يعترفون فيما بينهم أن هذه الصراعات نتيجة أخطاء السياسة الأمريكية نفسها. في الوقت نفسه لن تسمح واشنطن إن تستمر إيران في تسخين المنطقة ووضعها على حافة حرب طائفية، والأهم لم ولن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية أن تعيش إسرائيل تحت رحمة الصواريخ الإيرانية والحشود الميليشياوية في سوريا ولبنان.
على ما تقدم أصبحت الأوضاع المتأزمة في الوطن العربي هي العدو العائق أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه قررت واشنطن القضاء عليها سواء بسحقها أو احتوائها وتوظيفها في خدمة أهدافها. من هذه البديهيّة نستنتج طبيعة العلاقة بين امريكا والدول العربية ولا نضيع بين ضباب التصعيد بينهما وإثارة غبار الحوادث
التي تدور في الشرق الاوسط، وسنعتبر تصريح بايدن بشأن (ابتعاد أمريكا على المنطقة العربية في الفترة السابقة) تصريح تكتيكي. لاسيما أن أمريكا تعي جديا أنه لا يوجد حليف استراتيجي فاعل على ساحة الشرق الأوسط لها سوى المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج، إضافة إلى مصر والأردن والعراق.

البعد الثاني: اللحظة التاريخية لهذه القمة وليس اللحظة الآنية، وأعني بها تاريخ تسلم سمو الأمير محمد بن سلمان منصبه ولي عهد المملكة العربية السعودية:
التأريخ سيكتب يوم السبت 16 يونيو/ تموز 2022 بدء انقسام دول العالم الى معسكرين متناحرين تقف بينهما دول أخرى على الحياد. في هذا اليوم ترجّل سمو ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان خطابا تاريخيا يمكن اعتباره بداية انطلاقة جديدة في سياسة واستراتيجية المملكة العربية السعودية، بشيء من كاريزما القوّة ودعم مصوّر لسلسلة عروض جيل جديد من التحالفات كان سموه يشفر رسائل متعددة للعالم، وأهم رسالة هي لا تسمح الدول عربية، المملكة العربية السعودية، مصر والأردن والعراق وباقي دول الخليج العربي في العبث بمقدرات منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية. الذي بسبب هذا العبث فشلت أمريكا في فرض هيمنتها حيث لم تستطيع سد الفراغ الجيوسياسي الذي حدث بزوال الدولة والنظام السياسي في العراق تحديدا.
بالعودة إلى اللحظة التاريخية (التاريخ القريب) في عام 2018 قام سمو الأمير محمد بن سلمان بزيارة إلى واشنطن، لاسيما كانت هناك مباحثات سرية واجتماعات تحضيرية لتسويات كبيرة، وقد ناقش سمو ولي العهد في حينها إشكالات التداخل والتشابك الجيوسياسي في المنطقة، لأن الشرق الأوسط حاليا منطقة حرب وتتجاذبه عدة قوى في صراع قابل أن يتطور إلى حرب كبرى تتجاوز الحدود الإقليمية، ثمة معطيات تخص خيارات المنطقة وبحسب رؤية القيادة السياسية السعودية، بأن ما يجري من صراع طائفي عقائدي وغيره سيؤدي إلى انهيار كامل في الشرق الأوسط. ولن تؤدي الصفقات أو التسويات السياسية والضغوط الدولية إلى حلول ناجعة. والسبب هناك فوضى انتشار السلاح والتنظيمات التي يصعب احتوائها والسيطرة على تحركاتها مثل، الميليشيات والفصائل الأخرى، داعش وجبهة النصرة وغيرهم.
إجمالا فإن القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية غير قابلة على ما يجري في المنطقة، فهي تسعى إلى أن تحدث تغييرات وعدم السماح لتفكك أي منظومة، وضرورة احتواء الحلقات كخيار أنسب من التلاعب في مفاصل نظامها الذي تشكلت بموجبه، وهذا ما يُسمّى بالواقع الذ اتبعه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. عليه جاءت قمة جدة بمثابة خطة مدروسة من قبل السعودية والدول العربية الأخرى لتعبئة الفراغ السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة، ذلك الفراغ الذي تم حشوه من القوى المتناقضة الذي تسبب تراكمها وتقاطعها مع ارتباطاتها الأيديولوجية بتداعيات جعلت من الساحة العربية في عدد من بلدانها بؤرة استقطاب لكل أجندات التطرف بمختلف اتجاهاتها الفكرية والطائفية، وتحول المنطقة الى ساحة صراع دولية من خلال حروب الوكالة باستثمار تناقض القوى وتجنيدها وتمويلها من أجل تحقيق أهداف تخدم استراتيجيات الدول الكبرى والإقليمية. ولتلك الأسباب وغيرها تسعى المملكة العربية السعودية لحسم كل إشكالات المنطقة، بما فيها الملف السوري واليمني والليبي. إذن بغض النظر عن دقة حسابات هذا الإجراء (قمة جدة) بالنسبة للسعودية والدول العربية وما سينتج عنها، لكن مخرجاتها ستعالج أزمة خطيرة للغاية قد أقحمت المنطقة كلها.

البعد الثالث: ثالثا، دلالات توقيت عقد القمة والعوامل المحركة لها:

كما ذكرنا في البعد الثاني،  أن العبث الذي تشهده المنطقة العربية وما رافقه من تخبّط سياسي نتج عنه زلازل في عموم الشرق الأوسط ، وأدت الى دمار هائل يعجز العالم عن معالجة اضراره أو خلق معادلة جديدة تضفي إلى استقرار بديل عنه كما شهدنا و نشهد اليوم في سوريا وليبيا واليمن، وربما سيشمل دول أخرى إذا لم يتوقف هذا العبث وتبدأ الولايات المتحدة الأمريكية بمراجعة سياستها وأخطائها وتصحيح مسارها بإعادة التوازن وفق رؤيا تنطلق من تلبية مطالب الشعوب واحترام إرادتها وحريتها إسوة بشعوب العالم ،مع الكف عن دعم تيارات الإسلام الراديكالي. حيث أدركت أمريكا أن كلفة بقاء هذا العبث السياسي والتخبط في المنطقة ستكون باهظة على السياسة الأمريكية أكبر من قضية فشلها في فيتنام. من هنا جاءت أهمية قمة جدة وفق التصورات الأمريكية، فلم تعد للحسابات الاستعمارية ذو جدوى بالنسبة لواشنطن، ولكن نفاذ مدة صلاحية مؤامرة سايكس بيكو بعد مضي قرن من الزمان على إبرامها، كذلك تبدل موازين القوى وبروز المحور (الروسي الصيني الإيراني) وغيرها من تغييرات جوهرية في طبيعة النظام الدولي الجديد، جعلت أمريكا تضع في حساباتها الاستراتيجية أن المواجهة حاليا باتت حقيقة وبصورة علنية، أي أن الصراع أصبح بين أمريكا ودول الخليج وبعض الدول العربية مقابل روسيا والصين وايران، لاسيما أن إسرائيل محور الصراع في المنطقة. دون أدنى شك أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب يريدون تقليم أظافر الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين). بالمقابل إذا شعر بوتين بالخطر الحقيقي سينكث ويبيع إيران ولن يحارب لأجل إيران إذا علم يقينا أن أمريكا جادة في تحجيم إيران. وهنا تكمن أسرار زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن وتدخل فيها كل الحسابات. في السياق ذاته، ربما أمريكا تريد أن تبقى المنطقة كما هي، وعلى ما تم عليه من اتفاقيات في نهاية الحرب العالمية الأولى والتعديلات التي رسمتها القوى الكبرى، أو قد تذهب إلى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة إلى حال الذي سبق سايكس بيكو، لأن عقدها انتهى بمرور مئة عام عليها حسب الاتفاقيات. إذن جاءت قمة جدة لتحريك ملفات المنطقة المتشابكة، أبرزها مشاكل العراق وسوريا معا في سلة واحدة، كذلك تفعيل القرارات الدولية المعطلة بشأن اليمن وليبيا.

البعد الرابع: دور العراق في القمة وتحديدا في هذا التوقيت:
تطرأ الأحداث عندما تتوفر أسبابها وتجد دوافع مبررة وظروف موضوعية تسمح لظهورها في الواقع، ولعلّ جملة المسببات ما هو مستجد أو متراكم لم تتم إزالة عواقبه أو معالجة مخلفاته وتأثيره على السياسة العراقية داخليّا وإقليميا ودوليا. لقد كان التناقض واضحا في سياسات الحكومات العراقية السابقة منذ 2003، فتارة يتقرب العراق إلى حكومات التطرف والاستبداد الراديكالية، وتارة أخرى يقدم نفسه داعما مخلصا لمحور الاعتدال العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. لكن السيد مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي تعامل مع هذا الموضوع بطريقة محنكة، كما يعالج الطبيب المرض، فدقة تشخيص حالة المريض هي التي تحدد طريقة علاج المرض، والنجاح يتوقف على مهارة الطبيب وخبرته العلمية والعملية، إذ يبدأ بخطوة إعطاء المريض بعض المسكنات التي تهدأ من أوجاعه، ثم يبادر بإجراء فحوصات وتحليلات مختبرية وعلى ضوئها يتم التعامل مع المرض وعلاجه وفق مراحل.
على مستوى السياسة لا توجد مشاكل تستعصي على الحلول ولا توجد مطالب مستحيلة التحقق، ولعل السيد الكاظمي كان وما زال دقيقا في تشخيص الحالة السياسية في العراق وتحديدا العلاقات الخارجية، حيث ذهب بالاتجاه الصحيح عندما تقرب للمحور العربي، ثم ذهب أبعد ليجسد هذا التقارب بحضوره قمة جدة. وهذا بحد ذاته يشكل إنعطافة سياسية في العراق لها انعكاساتها الايجابية على البلد وفي رصد السياسة الإقليمية. وبما أن السيد الكاظمي يعلم جيدا أن تطورات الأحداث في الشرق الأوسط ربما ستشهد مناورات سياسية شديدة وتغييرات، عليه فقد استطاع الكاظمي فرض رؤيته على مساحة تلك المناورات وعدم تجاهله لنتائجها ومسارها والمواقف الدولية، على ضوء تطورات تلك الأحداث، وأن التنسيق بينهما مع العراق سينتج معادلة إقليمية جديدة. في الوقت نفسه سيحاول الكاظمي مسك العصا من الوسط. مع العرض أن المنطقة مرشحة لتغيرات كبيرة ستنال العراق بكل تأكيد واحتمالية إقامة دولة جديدة، تشمل ثلثين العراق وثلث سوريا تضم بادية الشام وشمال العراق، سيما أن روسيا قبلت بها، ولكن أردوغان يعارضها، أما الإعلام كله مضلل ولا يعكس شيء مما يدور.
وتأسيسا لما تقدم، سنوضّح بعض الحقائق لمن يتوخى دراسة الوزن الجيو سياسي لدول المنطقة والنفوذ الأمريكي، إن هذه القمة كشفت عورة السياسة الغربية بشكل عام في المنطقة، ووضعت حدا لتركيا وإيران، في اختبار القدرة والقوة على الصعيد السياسي والعسكري، على صعيد فرض الإرادة العربية والاحتواء، مما اتاح للملكة العربية السعودية وباقي الدول العربية التي شاركت في القمة أن يكن لها دور فاعل على مسار الأزمة.



تعليقات

أحدث أقدم