سلمى وجارودي : قصةُ حبّ أندلسية

مشاهدات



عائشة بلحاج


هل من بيتٍ يشبه المدينة التي يقفُ فيها شاهداً على تاريخها ؟ هل يشبه بيتٌ صاحبته التي لم تبنِه أو ترثه ولم تكبر فيه لكنّهُ صورة عنها في غناه وجمال روحه ؟ تجولُ بذهنك هذه الأسئلة وغيرها وأنت تخطو داخل "البيت الأندلسي" الذي تملكه سلمى الفاروقي زوجة الرّاحل روجيه جارودي الفلسطينية . 

 

تجلسُ إلى سلمى كما تجلس إلى الأندلس بحنينٍ وفخر خفيّين تحكي قصّة البيت وغرامها هي وجارودي بقرطبة وجهودهما لحفظ التّراث العربي والإسلامي فيها منذ إنشاء متحف المدينة في "القلعة الحرّة" ليضمّ تحفاً وكتباً ومخطوطات وكنوزا كثيرة من أيّام المجد الأندلسي . لماذا اختار روجيه جارودي قرطبة من بين مدن العالم لتكون موطنه في آخر ثلاثة عقود من حياته ؟ تحكي سلمى عن كلّ شيء ليكون جواباً عن سؤالي هذا رغم أنّه ليس بالحوار واضح الملامح ولا بالمسار يسير الاستيعاب . فيُصبح السّؤال لمَ لا قرطبة وهي ما هي عليه ؟ لكن لكلّ علاقة بداية مادية بدأت قصّة الحب بين جارودي وقرطبة عام 1982 حين زارها قبل إسلامه بصفته مدير "المركز الدولي لحوار الحضارات" واستقبله عمدتُها حينها خوليو أنغيتا الملقب بالخليفة الأحمر في إشارة إلى جمعه بين انتمائه للحزب الشيوعي والنضال من أجل الحفاظ على التراث الأندلسي في إسبانيا . أبدى جارودي حماسه لقرطبة مركزا للحوار الحضاري . ثم لما استُدعي إلى "المؤتمر الإسلامي الأول للمسلمين الأوروبيين" الذي عُقد في إشبيلية في 1985 انتُخِب رئيسًا له وبدأ مفاوضاته مع بلدية قرطبة لتحويل "القلعة الحرّة" التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر إلى متحف . وافقت البلدية على تسليمها له وافتُتح المتحف عام 1987 في مؤتمر حوار الديانات والحضارات .  يضمّ المتحف الذي أُنشئ بأموال عربية معرضاً لكتب التّراث في جميع المجالات الطب والهندسة والجبر والجغرافيا والفلك والكيمياء .. يعتمد المتحف على الكتب مكوّنا رئيسيا بما أنها كانت أحد أسرار ازدهار الحضارة العربية  في الأندلس . ففي وقتٍ كانت مكتبة "الحكم الثاني" أحد ملوك الأندلس تضم أكثر من 400 ألف مخطوطة كانت أكبر المكتبات الأوروبية لا تمتلك أكثر من مئتي مخطوطة . كما يؤرّخ المتحف لتجربة التعايش النّادرة بين أتباع الدّيانات السّماوية في الأندلس .

 

تحقّق حلم جارودي في إقامة متحفه التاريخي الإسلامي الذي يزوره كل عام أكثر من مائة ألف زائر من أنحاء العالم كما يضم مؤلفات جارودي التي بلغت 40 مؤلفا تعكس المراجعات التي قام بها سألتُ سلمى الفاروقي كيف التقت جارودي وارتبطت به رغم فارق السن بينهما ؟ حكت لي القصّة التي يبدو أنها سُئلت عنها كثيراً كانت تعمل في المركز الإسلامي في جنيف الذي استضاف عام 1982 جارودي بعد صدور كتابه "وعود الإسلام" للحديث عنه حينها استقبلته سلمى في المطار  بحكم عملها الذي اكتمل باستضافته مع بعض الأصدقاء للاحتفاء به . صباح اليوم التالي اتصل جارودي بسلمى داعياً إيّاها إلى الغداء . لكنّها اعتذرت بسبب الصّيام ولم يستسلم بل دعاها للعشاء قبلت سلمى الدّعوة وتعدّدت الرّسائل بينهما عدة أشهر ثم يعود جارودي إلى جنيف من أجل محاضرة أخرى ويدعو سلمى إلى حدثٍ مفاجئ يعلن فيه اعتناقه الدين الإسلامي هو الشيوعي العتيد ثم بعدها بفترة قصيرة تزوّجت سلمى جارودي لتقضي معه ثلاثة عقود من المحبة . سافر جارودي شرقاً وغرباً لكنه اختار قرطبة من أجل الاستقرار فيها مُنسحباً بتجربته الدينية ومقاربته الخاصة للإسلام إلى عالمها السّاحر وماضيها الفريد ثم رحل عام 2012 عن عمر 99 سنة  لكن سلمى الفاروقي التي رافقته في مساعيه من أجل الحفاظ على الإرث الأندلسي لم تُنزل يديها عن حلمهما المشترك بل اتخذت مبادرة رائدة بإنقاذ بيت أندلسي عريق في قلب المدينة القديمة من الهدم وأثّثتهُ بكل ما تملكه من تحف ومخطوطات وأثاث لتقدّم لزائر "البيت الأندلسي" تجربة حيّة في العودة في الزّمن إلى عصر الأندلس الزاهر تقول سلمى إن ما تقوم به هو لمواجهة حملة تحريف تاريخ المدينة الذي يحاول كثيرون تزييفه لصالحهم ومحو الثّقافة التي صنعته عنوة .

 

المصدر : وكالات

تعليقات

أحدث أقدم