فلسطين.. تاريخ ما أهمله التاريخ

مشاهدات


عبد اللطيف السعدون


ثمّة مقولة للفيلسوف اليوناني هيراقليطس مفادها بأنك لو قبضت على وقائع معينة ووقفت ناظرا إليها مشدوها بها فعليك أن تسارع إلى اقتناصها قبل أن تتسرّب من بين يديك وهذا ما فعلته وأنا أقلب في كتابٍ عتيق توشك صفحاته أن تنفرط كنت حصلتُ عليه من مكتبةٍ تتعامل بالكتب القديمة في أثناء زيارة لي إلى لندن قبل خمسين عاما .

 

كان الكتاب بلا غلاف وقد تهرّأت أطرافه لكنني كنت فرحا بحصولي عليه إذ ضم مذكّرات شخصية بريطانية كان لها دورها في إدارة الشؤون العامة في فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى . وللأسف لم تكن في استطاعتي معرفة اسم تلك الشخصية للوهلة الأولى لفقدان غلاف الكتاب وبعض صفحاته ولكنني توصلت في ضوء مراجعتي كتباً ووثائق عديدة معنية بتاريخ فلسطين في تلك الفترة إلى أنّ كاتب المذكرات هو الجنرال لويس بولز الحاكم العسكري لفلسطين قبل أن تتحوّل إلى إدارة مدنية في عشرينيات القرن الماضي .  وعلى أية حال وجدتُ في الكتاب مادّة دسمة عن أوضاع فلسطين في تلك المرحلة والأدوار التي لعبتها الحركة الصهيونية والقوى الدولية النافذة آنذاك في التأثير على سير الأحداث وفي توجيه مسارها في غياب دور فاعل للمنظمات العربية الفلسطينية على وجه الخصوص وقياداتها التي بدت كأنها تقف في الظل وليس لها فعل في إدارة الأحداث أو على الأقل في عدم قدرتها على استثمار حركة الاحتجاجات التي كان يقوم بها العرب آنذاك في مواجهة السلطة البريطانية المتواطئة مع الحركة الصهيونية في أكثر من منعطف . وبحسب كاتب المذكّرات كانت الحركة الصهيونية في تلك المرحلة تعمل في عدة اتجاهاتٍ تتكامل في ما بينها أولها تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين و"توطين اليهود تمهيدا لإعطائهم الاستقلال.. وإذا ما قاوم أحد العاملين في إدارة الانتداب هذا التوجّه عدّ معاديا للسامية أو على الأقل خصما للحركة الصهيونية وقد لعب الاتحاد العام للعمال اليهود (الهستدروت) دورا نشيطا في تشجيع هجرة اليهود من أقطار أوروبا إلى فلسطين ومارس شتى الضغوط على المؤسسات والشركات العاملة لاستخدام عمال يهود من القادمين إلى البلد . وثانيها "السعي إلى جعل اللغة العبرية اللغة الرسمية في فلسطين". وفي خطوة بهذا الاتجاه استقدمت المنظمة الصهيونية ورئيسها حاييم وايزمان من أوروبا علماء وأكاديميين يهوداً معروفين بتخصّصهم في اللغة والدراسات العبرية والعلوم والثقافة اليهودية. وثالثها تأسيس "الجامعة العبرية" وإقامة مركز للأبحاث العلمية وبالفعل وُضع الحجر الأساس في حينه واعتبر وايزمان ذلك "بداية لعودة اليهود إلى أرضهم بعد عهود طويلة من الشتات". ورابعها النفاذ إلى البيئة الاجتماعية الفلسطينية واستقطاب السكان اليهود وزجّهم في مشاريع زراعية ونشاطات اجتماعية، وإبرازهم عنصرا سكانيا فاعلا ومتفاعلا .

 

والاتجاه الخامس طرح فكرة تأمين مصالح بريطانيا وأمنها في مناطق نفوذها عبر تشكيل قوة عسكرية من متطوعين يهود على أن تكون فلسطين من هذه المناطق، وقد حصلت موافقة بريطانيا على ذلك وتأسّست كتيبة فلسطين التي أراد الصهاينة منها أن تكون نواةً لجيش الدولة المنتظرة وحرصت الحركة الصهيونية على أن لا يكون اسم الكتيبة معبّرا عن هويتها الحقيقية إنما أعطيت اسم "كتيبة حاملي الغدارات الملكية" لكنها عرفت لدى السكان باسم "الفيلق اليهودي" الذي ضم بين أفراده مشاهير وأعلاما في تاريخ الحركة الصهيونية مثل ديفيد بن غوريون (لاحقا أول رئيس وزراء لإسرائيل) وإسحاق بن تسفي (لاحقا ثاني رئيس للدولة) وكذلك زئيف جابوتنسكي (زعيم الحركة التصحيحية الصهيونية فيما بعد وصاحب نظرية "الجدار الحديدي" في العلاقات مع الفلسطينيين والعرب) والذي عكف على وضع خطة "كومنويلث يهودي" ودستور لفترة انتقالية يضمن تغييرا ديموغرافيا يصبح اليهود في ظله الأكثرية السكانية ويمكنهم آنذاك إعلان الدولة . هكذا جنّدت الحركة الصهيونية كل إمكانياتها من أجل قيام الدولة الموعودة، وحصلت على الدعم البريطاني المباشر لكن كاتب المذكرات رأى أن "سياسة بريطانيا في دعم فكرة تأسيس وطن قومي لليهود في بلد تسعة أعشار سكانه عرب تبدو سياسة غير حكيمة وسيكون من الطبيعي بالنسبة للعرب أن يكافحوا ضد سياسة تنكر عليهم حق تقرير المصير ولن يتوقع أحد أن يساندوا إقامة وطن لليهود على هذه البقعة التي هي بالنسبة إليهم جزء مكمل لجزيرة العرب. وقد انتبه إلى هذه الحقيقة مارك سايكس (الدبلوماسي البريطاني الذي اقترن اسمه باتفاقية سايكس بيكو) ودعا الصهاينة إلى أن ينظروا من خلال المنظار العربي وحذّرهم من "الركون إلى الأوهام".

 

المصدر : العربي- الجديد

تعليقات

أحدث أقدم