عندما أسكتت أنقرة أنواء شرق المتوسط

مشاهدات


ياسر عبد العزيز


صراع الأعماق في شرق المتوسط : 

قد تبدو هذة الجملة مثل "أفيش" (ملصق دعائي) لفيلم سينمائي ولو كان الأمر كذلك فأظن أن مصمم "الأفيش" سيرسم سمكة قرش كبيرة تحاول أن تلتهم فتاة حسناء وهي تتعلق بذراع غواص فتي لينقذها من الوحش الغادر . لكن فتاتنا في أعماق أكبر مما يمكن أن تغوصه الحسناء والقروش كثيرة وجائعة والكل يريد أن يلتهم نصيبه من الوليمة .

 

قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية الغاز الكامن في أعماق شرق المتوسط بـ 122 تريليون متر مكعب من الغاز غير المكتشف في حوض تطل عليه سوريا ولبنان والكيان المحتل وغزة وقبرص وليس ببعيد أن تنظر تركيا واليونان لتلك الوجبة المشبعة للجميع فيما لو قسمت بنزاهة لكن القروش تريد أن تلتهم الوليمة بقدها وقديدها . والأمر لا يقف على الغاز بل إن الهيئة قدرت أن المسطح المائي يحتوي على ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط يمكن أن تستخرج بالإضافة إلى ما تم ذكره من غاز ولأن التقديرات أكدتها بعض الاكتشافات أخيرا فإن الكبار سال لعابهم من أجل أن يحظوا بنصيب الأسد من الطاقة وتصدير فوائضها للغرب المتلهف على محرك الحضارة ومبعث روحها سواء في تحريك مصانعها أو إضاءة بيوتها وشوارعها أو الحفاظ على الإنسان من صقيع الشتاء القارس . ولعل هذه الأسباب هي ما جعلت الغرب يفتح أبوابه أمام إيران وروسيا رغم تصنيفهما مارقتين وتهددان أمنه إلا أن المصلحة تفتح الأبواب المغلقة وتشرح الصدور الضيقة . ولقد زاد الاهتمام بشرق المتوسط بعد أزمتي مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران والغزو الروسي لأوكرانيا وهو ما أجلى شعبيا ما كان يخشى الساسة أن يظهر من سلوك حلفاء الطاقة ومورديها . ومن ثم فإن غاز المتوسط ونفطه يحظيان بأهمية كبيرة بعد الأزمة الأخيرة مع الموردين الرئيسيين روسيا وإيران وتكمن تلك الأهمية في قرب المصدر من المستهلك وهو ما جعل المنتجين الكبار ككيان الاحتلال يسعى لمد أنبوب عبر اليونان للوصول لزبائنه في أوروبا وهو ما جعل أيضا دولة كتركيا تدخل على الخط وتوقظ الجميع من الحلم وترسم الحدود مع ليبيا لتقطع الخط على الخريطة قبل أن يمتد في الأعماق .

 

التكتلات الإقليمية في شرق المتوسط .
هذا الصراع الذي بدأ صامتا وتحول رويدا- بفعل المواقف السياسية والتحولات الإقليمية بعد الثورات المضادة على الربيع العربي- إلى صراع معلن تحمله تكتلات يحمل كل عضو فيها أهدافه مع اجتماع الكل على حصد المكاسب الأكبر من خلال تكتله وفي سبيل ذلك رسمت حدود ثنائية وفي بعض الأحيان ثلاثية على عجل ومن دون نظر البعض إلى المآلات فالهدف في بعض الأحيان هو قطع الطريق على المنافسين وهو ما حدث في حالتي مصر وليبيا في اتفاقاتهما لترسيم الحدود وكذلك محادثات لبنان مع الكيان المحتل في ترسيم حدودهما وإن لم ينتهيا بعد إلا أن المؤشرات تظهر احتمالية خروج الاتفاق في غير مصلحة لبنان على الأرجح . تلك التكتلات التي ضم أهمها ما عرف بمنتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس في القاهرة عام 2019 من أعضاء مؤسسين هم مصر وفلسطين والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا والكيان المحتل وفرنسا وينص ميثاق المنتدى على جواز التوسع في العضوية لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز أو دول العبور ممن يتفقون مع المنتدى في المصالح والأهداف . ونضع تحت هذين الشرطين 100 خط  فالمصالح والأهداف في الأساس هي توزيع خيرات شرق المتوسط على الدول الأكبر في الإقليم وحرمان أخرى ولأن الدول الأعضاء في المنتدى مقسمة حسب أوزانها النسبية فوجود إيطاليا وفرنسا له هدفه ووجود مصر وكيان الاحتلال ومن ورائهما اليونان له هدف والباقون دورهم ثانوي قد يعطيهم المخرج جملة في أوقات معينة في الفيلم لذلك نجد أن أميركا والاتحاد الأوروبي حاضران بصفة مراقب دائم في التأسيس مع الإمارات التي لم يتأكد وضعها القانوني . هذا التكتل بشكله الذي أسس به وأعضائه رأته تركيا كيانا خارقا لمصالحها في شرق المتوسط إلا أنها تعاملت معه بهدوء فقد نشرت صحيفة "حريات" في حينها (القريبة من الإدارة التركية) أن مدير عام وزارة الخارجية التركية تشاغتاي إرجيس نقل إلى القائم بالأعمال المصري في أنقرة رغبة بلاده في توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع القاهرة مثل الاتفاقية الليبية التركية وهو ما قوبل بفتور من القاهرة . ورغم استمرار اللقاءات المخابراتية ولقاءات الصف الثاني على مستوى الخارجية للبلدين تكرر الطلب التركي وتكرر الرد المصري بالفتور ومضت القاهرة في توطيد العلاقات مع دول الحوض لا سيما اليونان مع العلم بوضع العلاقات التركية اليونانية ومع ذلك ظلت تركيا ترى في البيان التأسيسي للمنتدى بابا يمكن الولوج منه للمنتدى لا سيما في ما نص عليه من "جواز التوسع في العضوية لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز" هو ما جعل تركيا دؤوبة في استمرار سعيها لاختراق المنتدى سواء بالعضوية أو بتفكيكه . وفي المقابل حاولت دول المنتدى التشكيك في ترسيم الحدود الاقتصادية بين تركيا وليبيا بحجة أن تركيا لم توقع على قانون البحار رغم اعترافها بترسيم الحدود بين قبرص واليونان والكيان المحتل والاحتلال لم يوقع مثل تركيا على قانون البحار وأطلقت تركيا سفنها للتنقيب عن النفط في البحر المتوسط قبالة سواحل جمهورية شمال قبرص "حليف أنقرة" كإجراء أمر واقع وورقة ضغط على دول المنتدى مما جعل احتمالية الاحتكاك واردة لا سيما أن تركيا كانت تطلق فرقاطاتها البحرية مع سفن التنقيب .

 

أنقرة تدير دفة الصراع :
منذ 2013 بعد أحداث "غيزي بارك" وما بعدها التي وصلت ذروتها في 2016 وتحديدا قبل محاولة الانقلاب في تركيا بدأت تظهر عمليات "قرص الأذن" للإدارة التركية بعد تحول سياسات تركيا تجاه محيطها العربي والأوروبي وموقفها الداعم لثورات الشعوب ووقوفها ضد الثورات المضادة والدول الداعمة لها مما نتج عنه التضخم النقدي في تركيا الذي تزامن مع عمليات عسكرية في شمال سوريا والعراق لحماية أمنها القومي كما أعلنت الإدارة التركية في حينها وتفاقم الوضع الاقتصادي العالمي بعد جائحة كورونا الذي تستمر آثاره للآن والتي يرشح أن تتعدى العام الحالي إلى العام المقبل لا سيما بعد الحرب في أوكرانيا رغم موقف تركيا الرمادي بعض الشيء للحفاظ على مصالحها مع روسيا لا سيما أن تركيا أصبحت مركزا لتوزيع الغاز والنفط بالمنطقة وهو ما يجعل وضعها معقدا في علاقاتها مع جيرانها أو شركائها الاقتصاديين وزبائنها في أوروبا ومن ورائهم أميركا التي تريد أن تنسج أنقرة علاقة جيدة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي صرح تصريحات سلبية عن الإدارة التركية . يوضع في مقدمة كل ما ذكر التضخم الذي وصل في تركيا ما يقارب 40% مع تصنيف عالمي للوضع الائتماني لتركيا "بالمتردي" وبعد أن خسر الحزب الحاكم الانتخابات في المدن الكبرى مما يؤشر إلى تآكل الطبقة الوسطى التي يعتمد عليها الحزب في التصويت فالناخب التركي الذي صوّت للحزب خلال هذه الفترة كان مدفوعا بتحسن الوضع الاقتصادي ودخل الفرد مع خدمات أفضل تقارب الممتازة مقارنة بما يقارب 80 عاما من حكم حزب الشعب الجمهوري المعارض الآن وهو ما يخشى منه الحزب ورئيسه الذي تربع على مقاليد الحكم نحو 20 عاما . ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا فقد تكون هذه العوامل كافية لأن يغير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الدفة غير معاند لاتجاه الريح لوصول أسرع لأهداف يحلم بتحقيقها في خطة طموحة لبلاده أعلن عنها عام 2030  تلك الخطة بحاجة ماسة إلى شريان حياة اقتصادي متمثلا في عودة الاستثمارات المسحوبة وإدخال مزيد من الاستثمارات تضاهي وتزيد على ما خرج خلال السنوات السبع العجاف السابقة مما يعني لزوم إعادة العلاقات مع السعودية الكبيرة في الخليج والإمارات المؤثرة حتى على الدولة الأكبر في الخليج ومعها مصر الدولة الأكبر في محيطها العربي رغم ما تمر به من ظروف مدفوعة بسياسات النظام وبالتوازي يجب غلق- أو على الأقل تقليص- المناكفات الخارجية مما يعني تبريد المواقف مع اليونان وأرمينيا وتحييد فاعل مهم في المنطقة ويعد الفاعل الأهم والصامت في المنطقة .

 

زيارة ولي عهد الإمارات في حينها ورئيسها الآن محمد بن زايد لأنقرة التي كسرت حاجز الجفاء منذ 2011 وصولا لذروته في 2013 كانت فاتحة لكتاب عنونته تركيا بـ"علاقات جوار أكثر دفئا" بدأ فصله الأول مع وصول بايدن للبيت الأبيض فالإدارة الأميركية تريد تبريد المشاكل في الشرق الأوسط للالتفات للتنين الصيني وهو ما تماهت معه أنقرة مستفيدة من أضواء الجوار تحت الفكرة وفي النهاية فإن التماهي مع التوجه الأميركي ستنتج عنه مصالح أكبر في ظل حالة شبه العزلة التي عاشتها تركيا في السنوات الأخيرة . ثم تلت زيارة الشيخ محمد بن زايد زيارة رئيس الكيان المحتل لتجري مياه في نهر علاقات كانت شبه مقطوعة بعد حادثة "مافي مرمرة" وهو ما مهد لزيارة وزير خارجية تركيا لتل أبيب ثم الضفة الغربية إيذانا بدور مختلف لأنقرة في القضية الفلسطينية قد تكون غزة في مرتبته الثانية مع الإبقاء على الدور الإنساني غير المقطوع منذ وصول العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا وليعلن رئيس وزراء الاحتلال دعوته للرئيس أردوغان لزيارة تل أبيب مما يعني علاقات كاملة أكثر هدوءا إذا مرت مسيرة الأعلام اليوم الأحد بهدوء . وإن كانت زيارة الرئيس التركي للسعودية قد تأخرت فإنها كانت منتظرة من ولي العهد الذي رغب في إنهاء واحدة من أكبر الأزمات التي أضرت بالبلدين بعد فترة من الشد والجذب وصلت قمتها بأحداث القنصلية السعودية في إسطنبول ومن المنتظر أن يزور ولي العهد أنقرة خلال الشهر القادم حسب ما أعلن مما يعني تطبيعا كاملا وعودة استثمارات تحتاجها تركيا في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه العالم .  وبما أن الإمارات والسعودية قد طبّعا فإن القاهرة لا محالة قادمة وهو ما تحدثت عنه الأنباء أخيرا من أن وزير خارجية النظام في مصر سيزور أنقرة الشهر القادم في زيارة مبرمجة يمكن أن تليها زيارة على مستوى أعلى وهو ما أعلنه الرئيس أردوغان نفسه بعد زيارة السعودية بأنه لا مانع لديه من زيارة القاهرة وهي إن كانت ضربة للمعارضة المصرية فإنها ضربة أيضا للمعارضة التركية التي طالما لامت إدارة أردوغان على الاصطفاف مع المعارضة المصرية مما أفقد تركيا مكاسب مؤكدة من فتح علاقات مع النظام في مصر . هذه العلاقات المؤثرة والمتحولة تضمنها تبريد الحرب الكلامية مع فرنسا واليونان وإن كانت الأخيرة تستخدم كبيدق في ملفات أخرى وهو ما نشهده الآن من تصعيد في بحر إيجة تزامنا مع مطالبات تركيا "المشروعة" بتوفيق الأوضاع مع السويد وفنلندا قبل دخولهما حلف الناتو ومع ذلك فإن الاختراقات التي قامت بها أنقرة خلال الفترة الأخيرة ستجعل من عضوية منتدى غاز المتوسط أسيرة للإجماع في المنتدى بتهدئة الأمور مع تركيا .

 

هل تتمكن أنقرة من الإبقاء على حالة الهدوء؟
إن ميدان العمليات في شرق المتوسط -الذي يضم نحو 47% من احتياطي النفط و41% من احتياطي الغاز في العالم- زادت أهميته ومن ثم سخونته في ظل الآمال الجيواقتصادية التي يحملها في أعماقه بالنسبة للدول المطلة عليه لذا فإن الصراع على استغلال ثروات الهيدروكربون والتنافس على طرق تصديرها والتزاحم على حصص الأسواق الخارجية لن يتوقف بل سيضم إليه فاعلين جددا بعد الأزمة الأوكرانية وقطع روسيا الغاز عن فنلندا وهو بمثابة رصاصة استكشافية لمواقف باقي دول أوروبا التي رضخت "مرحليا" لدفع مشترياتها من الغاز الروسي بالروبل . إن سعي تركيا العدالة والتنمية لأن تكون نقطة مركزية لتوزيع الغاز والنفط من الشرق (روسيا، وإيران، والعراق، وأذربيجان، وأخيرا مشروع لنقل النفط الإماراتي) هو حلم تحقق الكثير منه لكنه يصطدم مع حلم تل أبيب في الاستحواذ على هذا الدول وحلم القاهرة أيضا في أن يكون لها دور أكبر من خط "سوميد" لا سيما أنها بدأت بالفعل أن تسييل غاز الكيان المحتل في إدكو وإعادة ضخه ليكون جاهزا للتصدير من قبل الاحتلال مع أنبوب سيسمح بزيادة الإمدادات إلى مصر بما يتراوح بين 3 و5 مليارات متر مكعب سنويا وستستخدم هذه الإمدادات في زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال من مصر إلى أوروبا وآسيا . وليس ببعيد من هذا الحلم تقف اليونان التي تترقب من أجل أن تكون محطة مهمة لنقل غاز الاحتلال قبل ترسيم الحدود الاقتصادية بين تركيا وليبيا . وعلى ذكر ليبيا فإن التوافقات التي تمت لتدفئة العلاقات مع الخليج ضمت تبريد العلاقات مع التيار الإسلامي في المنطقة مما يعني- وإن كان مستبعدا- تجميد تفعيل اتفاق ترسيم الحدود الذي تم في ولاية فايز السراج في ظل الدعم الإقليمي لفتحي باشاغا وهو ما يمكن تفسيره بأن تركيا ستواجه ورقة ضغط في ليبيا بعد أن كانت ورقة ضغط لها . على كل فإن كل شيء متغير في السياسة فلا أصدقاء دائمون وما حدث من تحولات في المنطقة تصب في شرق المتوسط كلها مواقف مدفوعة بمصالح وعليه فإن بقاء العلاقات مرهون ببقاء المصالح وغاز ونفط شرق المتوسط يكفيان لتلبية حاجة أسواق أوروبا لمدة 30 عاما والعالم لمدة عام واحد حسب تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية فهل يعني ذلك أن هذه العلاقات الدافئة ستستمر 30 عاما ؟ لا يمكن أن أقطع ولا يقطع أحد بذلك في ظل التغييرات القو وآمال تركيا العدالة والتنمية وأهداف الاحتلال ودعم أميركا لكن على الأقل -بالنسبة لتركيا- فإن تمرير عام 2023 هو هدف مرحلي تسعى لتحقيقه وبعده لكل حادث حديث . 


المصدر : الجزيرة - نت

تعليقات

أحدث أقدم